"تسارع الخطى"
أحمد الشطري

يعتمد الروائي أحمد خلف في روايته "تسارع الخطى" الصادرة عن دار المدى عام 2014 نمطا اساسيا في عملية السرد، هو ما اسماه (بيرسي لبوك) بنمط: الشخص العارف بكل شيء، وهو ما أتاح له ان يتكلم عن شخصياته ومن خلالها وفقا لما يراه فورستر اذ يقول:" ميزة الرواية ان الكاتب يستطيع ان يتكلم عن شخصياته ومن خلالها او ان يُؤَّمِنَ لنا الإصغاء اليها عندما تناجي نفسها. وهو مطلع على أحاديث الذات النفسية. ومن هذا المستوى يستطيع ان يهبط أعمق وأعمق ويرمق الحس الباطن" و"تسارع الخطى" تتطابق مع رأي فورستر هذا بشكل كبير، اذ نرى ان الراوي مرة يدخل الى عمق الشخصية؛ لينقل لنا حواراتها الداخلية، ومرة اخرى ينتقل الى الوصف الخارجي للمشاهد والاحداث، او ان يلتزم جانب الاصغاء لما يدور من حوارات.
بيد ان الراوي عند أحمد خلف في هذه الرواية لا يلتزم في سرده للأحداث بذلك النمط الذي أشرنا اليه فيما سبق فقط بل انه يتنقل بين نمطين من انماط السرد وفقا لشخصيات الرواية.

الاسلوب السردي للرواية:

مما يمكن ان يلاحظه القارئ ان هناك انحيازا واضحا للشخصيتين الرئيستين في الرواية، سواء من الروائي اذا ما تم اشراكه في فعل الحكي او من الراوي اذا ما جردنا الروائي من ذلك الفعل وجعلناه مجرد مدون لما يحكى له، وفقا لرأي(هنري جيمس)، هذا الانحياز يكمن في تبنيه لاحاديثهما احيانا سواء مع الذات ام مع غيرها، ومعرفته بما تحمله دواخلهما وتصرفاتهما، في حين نراه يتعامل مع الشخصيات الاخرى بحذر بالغ، فهو ينأى بنفسه عن كل ما يحيط بتلك الشخصيات، وما يدور بدواخلها، وما يمكن ان يبدر منها من تصرفات، وهذا الفعل، هو ما يجعلنا ان نصنف الراوي في هذه الرواية الى صنفين على وفق تصنيفات (تودوروف): فهو يتعامل مع الشخوص الرئيسة بصيغة (الرؤية مع)؛ ولذلك فهو مطلع على دواخلهم وينطق بلسانهم، او ينطقون بلسانه، بينما مع الشخصيات الأخر. يستخدم اسلوب (الرؤية من الخارج)؛ فهو يجهل كل شيء عن تصرفات تلك الشخصيات ودوافعها، وما يدور في دواخلها. وينتظر شأنه شأن الشخص الرئيس في الرواية، او القارئ حسب ما يبدر عنها من افعال وتصرفات.
زمن الرواية:
لا شك ان زمن الرواية عامل مهم في تبرير الافعال ومعرفة الدوافع والممكنات التي تتيح للأشخاص القيام بتلك الافعال وتجعلها قابلة للتصور والتصديق، كما ان زمن الرواية يشكل عنصرا مساهما في بناء وتنامي الحدث الدرامي ومنطقية احداثه والصراعات التي تجري فيه.
تجري احداث رواية "تسارع الخطى" في بغداد بعد عام 2003 وتتناول ما كانت تشهده هذه المدينة من هيمنة عصابات الخطف والقتل المختلفة اسبابه ودوافعه على شوارع هذه المدينة، فالظروف كانت مهيأة لنشوء مثل تلك العصابات بسبب انعدام القوة الرادعة، وتفشي حالة الفوضى وتخلخل النظام وضعف القانون وادوات تطبيقه.
وتتنقل احداثها بين دوائر متعددة للصراعات منها على سبيل المثال (الصراع بين عبد الله وخاطفيه، والصراع بين عبد الله واصدقائه في دائرة المسرح، وبين عبد الله ورواد الحانة، وبين هند وحبيبها) وهي صراعات تتفرع بخطوطها الى صراعات اخرى جانبية، ولعل أبرز رسائل الرواية التي تحاول ان تنقلها الى القارئ هي الادانة الصارخة للواقع المأساوي الذي كان يهدد حياة الانسان في الظرف الزمكاني للأحداث.
كما اتاح استخدام تقنية (الميتافكشن) للراوي عملية الانتقال بالحدث لأزمنة مختلفة ولصراعات مختلفة ايضا، وهو اسلوب ربما يسمح للراوي بالخروج من التسلسل الطبيعي لمسيرة الاحداث الدائرة في عملية السرد، كنوع من انواع التشويق او كسر النمطية والرتابة التي يمكن ان تخلف في نفسية المتلقي حالة من التذمر والملل.
ولعل من السمات التي يمكن لنا ان نستشعرها ونحن نقرأ هذه الرواية هو هذا التناسق الذكي بين الحدث ووصفه، اذ نحس بإيقاع حركة الحروف وهي تركض بنسق مواز لحركة الخطى الراكضة هربا من الموت. بينما يهدأ ايقاعها تبعا لحالة الهدوء التي تعتري احداثا اخرى.
لقد اعتمد الروائي احمد خلف عدة مسارات لبناء الحدث الروائي: فبالإضافة الى المسار الوصفي كان هناك الحوار الذي يساهم في تنامي الحدث وادارة الصراع. وكذلك الحوار الداخلي (المونولوج) الذي يأخذ مساحة واسعة من مساحة الرواية والذي من خلاله يكشف لنا الراوي الصراع النفسي لبطلي الرواية (عبد الله وهند).

ثيمة الرواية:

تشكل عملية الاختطاف الثيمة الرئيسة والفاعلة لأحداث الرواية الى جانب ثيمات اخرى جانبية، فمن خلال الصراع الداخلي للشعور بالخطر اثناء عملية الاختطاف وما بعدها، يبدأ سيل من المشاعر الضاغطة والذكريات والبحث عن المسببات التي ادت الى عملية الاختطاف تلك، بسلسلة من الاسئلة التي تتقافز مع تصاعد انفاس (عبد الله) اللاهثة، مشكلة دوائر من الشك حينا، ومن اليأس والخوف حينا آخر، بيد ان انثيال تلك المشاعر لا يمنع من خروجها الى مناطق خارج دائرة الاختطاف في عملية تذكر بأحداث دارت في بيت ( عبد الله) وفي دائرته، دائرة السينما والمسرح ليعبر من خلالها عن طموحه الذي يصطدم بعقبات كثيرة، على الرغم من انه كاتب مسرحي وحاصل على شهادة اكاديمية بالفنون المسرحية، الا انه بقي مهمشا، ولم يحصل على الفرصة التي تتيح له ان يثبت جدارته كممثل وكاتب مسرحي، ومع استمرار الصراع بين الطموح الجامح الذي يتنامى في داخله وبين عوامل الاحباط المحيطة به، الا ان عوامل الاحباط والظروف الصعبة التي يعيشها لم تثر في نفسه الرغبة في السفر واللجوء الى دولة اجنبية مثلما فعل صديقة المترجم. وبموازاة هذه الصورة التي ترسمها عملية التذكر (الميتافكشن) تبرز قصة (هند) ابنة اخته الطالبة الجامعية التي تتورط بعلاقة مع زميلها (رياض) وهو ابن أحد التجار تؤدي الى فقدانها عذريتها، ثم تلجأ الى (الخال عبد الله) ليخلصها من تلك (الورطة) من خلال اللقاء بـ(رياض) وايجاد الحل المناسب لها الا ان عملية اختطافه تحول دون ذلك اللقاء.
لقد زرعت عملية الاختطاف بواعث الخوف والشك الدائم في نفس عبد الله بكل ما حوله، حتى بدأ يخسر اصدقاءه، ثم ينتقل بنا الراوي الى حانة يجري فيها صراع بين عبد الله وبين مجموعات مختلفة من الاشخاص تنتهي بتلك المجموعة التي تطلب منه تزوير التاريخ لصالح شخص وصفه بـ (الرجل الكبير). ومن خلال التمعن في احداث الحانة بالذات نستشعر ما تستبطنه تلك الاحداث من رمزية عالية ربما اراد منها أحمد خلف ان تضع في ذهن القارئ باعثا للتفكير وتحليل المعاني المستترة وراءها، ومن خلال قراءتنا للرواية يمكن لنا نضع احد المفاتيح او المقترحات المتصورة لما يمكن ان نستشفه من تلك الاحداث، هو ان تلك الحانة على وفق تصورنا هي صورة مصغرة لتصارع القوى المختلفة على الساحة والتي تميل كفة الصراع فيها لهيمنة الاقوى، والذي يعمل الراوي على تجريده من أي تاريخ يمكن ان يجعله متجذرا في هذه الارض؛ ولذلك يلجأ هذا (الرجل الكبير) الى البحث عن صانع ماهر، يُمَكّنَهُ من تلفيق تاريخ مزور؛ ليجعل منه واجهة شرعية يتستر بها. ومن خلال ذلك يريد الروائي ان يوحي لنا، ان هذه القوى التي تقترف الجرائم بحق الناس، هي مجرد قوى واهية، ولا تمتلك جذورا في هذه الارض، ومادامت كذلك، فهي لابد ان تتلاشى ذات يوم ويضمحل كل أثر لها.

********************************
"
الذئاب على الأبواب"
حمدي العطار

رواية (الذئاب على الأبواب) من الروايات الناضجة، فهي تعبر عن رؤية شاملة (سياسية واجتماعية وانسانية) البطل فيها "يوسف النجار" من الطبقة المتوسطة التي دفعت ثمن الانتكاسات والحروب والطغيان والظلم، وهي ايضا التي اخذت حصة الاسد من الفشل وعجزت عن تحقيق أبسط الاحلام. الروائي من خلال هذه الشخصية و(معها) قدم رواية تسجيلية عن مرحلة اجتماعية كاملة، شخصياتها تملك الماضي كجذور لواقع مرير (الحاضر) الذي تعيشه مع غياب هدف مستقبلي واضح!
رواية كتبت بحساسية مرهفة لقضايا معاصرة واستخدم فيها الروائي كل أشكال السرد، مرة السارد هو الراوي العارف، وتارة أخرى السارد هو "يوسف النجار" لأننا "إذا أردنا تقديم وصف موجز، كاف وشاف، سوف نعجز أمام ما خاضه وما اضطر إلى الدخول فيه من تجارب مريرة أحاطت به .... وعليه سنشركه بين حين وآخر لكي يروي لنا ما عاشه من أحداث وما يراه مناسبا لسرده من حكايات ألمت به في ماضيه وحاضره".
يضعنا السارد امام مشكلة مفتوحة متجددة. كان يجعل شخصياته (الموضوعية) تعبر عن نفسها بحوار (درامي) وبالذات شخصية يوسف النجار. بعد ان تم تفجير بيته وقتل زوجته وابنته يفقد بهجة الحياة وهو يعانق خطر الموت اليومي "لم يكتفوا بتفجير بيته الذي بناه بتعب العمر كله ولا العائلة التي أصبحت في خبر كان ..بل واصلوا مطاردتهم له أينما ذهب وأدركوا مستقره" غالبا ما (يكلم البطل نفسه) وهو تكنيك سردي لجأ اليه الروائي، من خلال كشف بعض الاراء والمواقف التي يمكن ان تحدث لو كان اختيار الشخصية لمثل هذه القرارات، ودائما يعتمد نجاح السرد على الامكانيات التي تتوفر لدى الروائي"وظل يكلم نفسه كما لو يخاطب شخصا آخر يزيد اللوم والعتاب عليه كلما تعاظمت الخطوب أو شعر كم هو وحيد ومعزول عن الآخرين"
شخصيات الرواية فنيا غنية ولا تقل اهمية عن البطل ولكنها غالبا ما يرتبط به، (أيوب، يونس الغطاس، هشام، محمود، عبير) وقدم الروائي علاقة حب وجنس راقية بين يوسف وعبير لا تخلو من الاثارة! فهو عندما يلتقي بعبير السيدة التي مات زوجها بالتفجير وتعيش مع ابنتها ووالدتها، وكانت معه زميلة دراسة في الكلية نفسها، تجعله يسترجع الماضي والذكريات بنقلة فنية رائعة "ولكن ماذا سيتذكر من أيام كان فيها كما يطلق على نفسه الطالب : النص ،.. نص مجتهد/ ونص كسول/ ونص سياسي/ونص محايد، وفي العشق والهيام كان واحدا بالتمام، وكان يعشق كل البنات".

العناصر المهيمنة على النص

يبدو لي عنوان الرواية من ابرز العناصر التي تهيمن على السردية،فالمتلقي كلما جاء مقطع فيه ترقب وحيطة وحذر من قبل (يوسف النجار) ومطارديه يكون فيه الحاجز هو الابواب الموصدة يحضر العنوان الذي يوحي له الغلاف الى مضمون هذه الرواية.ولعل الاسطر الاخيرة التي يقرر فيها يوسف النجار مواجهة الرجال الذين يتربصون به ويبعثون له رسائل التهديد خير مثال "تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الاسفل تأكد من وجود الاطلاقات داخل السبطانة، أعاد مسدسه إلى وضعه ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين، استجابة لتحديهما العنيد".

استعادة العلاقات القديمة

من المحاور المهيمنة على النص هي استعادة العلاقات القديمة، فضلا عن العلاقات في الجامعة هناك استعادة للحرب العراقية الايرانية وتجنيد يوسف النجار كضابط احتياط ومعاقبته بنقله الى وحدة عسكرية نائية يطلق عليها (وادي الموت) "ما الذي نفعله هنا في هذه الأرض الميتة؟ لا زرع ولا حياة فيها، أين البشر؟".

سرعة الاحداث

اختار أحمد خلف ان يكون الايقاع سريعا مع عدم التفريط بالبنية الدرامية للسرد، وتداخلت عنده الازمنة المقارنة مع تغير الاماكن وتأثيرها مع وحدة الشعور (بالظلم وحالة عدم الرضا) الشخصيات تظهر مثل البرق وتختفي لكنها تترك اثرا لدى المتلقي (في المعسكر،في نادي للمصارعة، في ورشة العمل، وعند التغيير والاحتلال الامريكي وفترة تشكيل الاحزاب او العصابات) ،كان مع الايقاع السريع هناك (التركيز الدرامي) للاحداث منها ما هو واقعي مضاف اليه عنصر الخيال الفني، لان الروائي يرصد ويفسر ويحلل الظروف التي ساهمت في تشكيل هذا الواقع!
ومع وجود يوسف النجار كان يتواجد اكثر من عنصر نسائي حتى يأخذ هذا المحور جزءا كبيرا من العناصر المهيمنة على السرد، فهناك (المربية والزميلات والزوجة والعشيقة والجارة والعاهرة) ولكل منهن وقفة فيها اثارة جنسية، لما عرفناه عن يوسف النجار وحبه وعشقه للمرأة".