في كتابه (السيماء والتأويل) عدَّ روبرت شولتز الشيفرات وسيلة مهمة يعتمد عليها القارئ في فك مغاليق النصوص وتفسير ما فيها من تعقيدات، بوصف الشيفرات مفاتيح تتيح السير بيسر في طبقات النص الخفية، موسعة المكثف، ومفصلة المختزل. وعندها لن يغدو النص متاهة. هي عبارة عن خطاب عصي وملغز، ما من سهولة في قراءته، بل سيظهر أمره، وقد رُفع عنه اللبس وتوضح الغامض منه وحل التلغيز في ألفاظه وعباراته ومكنوناته.
وواحدة من الشيفرات المهمة عند شولتز شيفرة عدُّ جسم المرأة نصًا، وذلك من خلال قراءته قراءة تأويلية، فيها يتم التعامل سيميائيا مع الجسد بوصفه حاضرا وماضيا، انساقا ومضامين، مخاطبا ومتكلما، فاعلا ومنفعلا نقصا واكتمالا. ويمكن للنظام التشفيري أن يؤدي في البناء السردي وظائف متنوعة يُعيد فيها الاعتبار للمؤنث مانحا إياه هوية، ليكون معادلا للذكورية في المركزية وقد امتلك دلالاته الرمزية الخاصة التي لا تتعلق به وحده؛ وإنما تشمل الآخر المذكر أيضا. فتتجسر الصلات بينهما ويصبح أحدهما موازيا للثاني، لا مهيمنا عليه، كوعي بالوجود واكتراث لقصدية التعاطي الرمزي الذي يجعل الكتابة السردية تستجيب لدواعي الترميز الأنثوي ودوافعه.
وهذا ما نجده في رواية(الأجنبية) للروائية العراقية عالية ممدوح، الصادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2013 التي هي سيرة روائية، فيها تستذكر الساردة/ البطلة طفولتها ومشوار اغترابها معلنة عن خصوصياتها، معترفة بتشظيها بين وطن لا إحساس معه بالهوية، وبين رجل لم يعد كما تريد، هو زوجها عبد الأمير الركابي، الذي سبب لها الأسى وهو يلاحقها في فرنسا، مطالبا إياها بالامتثال والطاعة.
والكتابة التي موضوعها المرأة لا بد أن يكون للجسد فيها حضور طافح ومميز؛ لكن ليس بالمعنى الحسي والسطحي؛ وإنما بالمعنى الأعمق وغير المرئي الذي يجعل الجسد المؤنث منطويًا على معنى خاص، لا تفهم نسويته؛ إلا بالتأويل، الذي يمارسه القارئ الذي هو مقصد الساردة الذي من أجله تعترف أنها انتهكت أعراف الكتابة السيرية، موظفة مقاطع ميتاسردية (إنني انتهك أصول السيرة ولا اخرس أية تلميحات يمليها مزاج القارئ الخفي الذي انتظره في كل صفحة وغالبا سيحضر لأنني أفكر فيه أيضاً). او قولها: (إنني أدين لهذه الشخصيات لأنها كانت الأولى التي شاركتني لذة اللا طاعة وبدء الفتك بالرقيب الجواني).
والسيرة ليست جنسا وإنما هي نوع يندرج في السرد الروائي، وهي تقسم إلى ذاتية وغيرية. وعرّفها فيليب لوجون بأنها قصة حياة شخص كما كتبها هذا الشخص نفسه، أو هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة. والمدهش ما ذكره لوجون من أن كتابة السيرة بالأصل فعل نسوي، مارسته المرأة منذ وقت طويل لكن مع مرور الزمن صارت كتابتها أكثر اقتصارا على الرجال.
والسيرة النسوية الذاتية هي التي تكتبها المرأة وتكون فيها هي الساردة والبطلة، ولها خصائص وسمات تختلف عن السيرة الذاتية الذكورية التي يكون فيها الرجل هو المؤلف والسارد البطل، أما السيرة النسوية الغيرية فهي السيرة المقترنة بالمرأة البطلة والساردة التي هي ليست ذات المؤلفة.
وصحيح أنّ الرجل يمكنه أنْ يكتب هذه السيرة ساردا الأحداث بلسان المؤنث؛ بيد أنّه لن يبلغ ما ستبلغه المرأة الكاتبة في تشفير معطيات الجسد كمركز فيه تكمن سحريته، وكتاريخ قيمته تتجلى في الفكر وضوحًا وايجابية وليس غموضًا وغريزية، وهذا ما تستطيع الشيفرات توصيله الى عموم القراء.
وقد ذهبت بيتي فريدان في كتابها (السحر الأنثوي) عام 1963 إلى أن النسوية قد قضت نحبها. وأن الأصل في مشاكل المرأة في الماضي جسّدها الرجل وأنها حاولت أن تكون مثله بدلا من أن تقبل طبيعتها ومن ثم وقعت في السلبية الجنسية والهيمنة الذكورية واذكاء الحب الامومي؛ بيد أننا نرى أن سعي المرأة الى امتلاك هويتها لا ينحصر في هذا التصور ما بعد النسوي. والسبب أن مشكلة المرأة ليست مماثلة الرجل أو التساوي معه؛ بل مشكلتها تشكيل صورة ثقافية خاصة بها، تقوّض مسلمات النظر إليها بحساسية جسدية؛ والاستعاضة عن ذلك بحدسية الجسدنة التي بها تغدو الأنثوية مستقلة بمواضعات ثقافية تقع خارج إطار النظر الفسيولوجي. وهذه المواضعات لا يقرأها سوى ناقد مؤول يعرف كيف يتوصل إلى ممكنات النضج في الهوية الذي فيه اكتمال الذات النسوية.
وقد حدّد روبرت شولتز للقراءة التأويلية ثلاث مقابلات، الأولى بين الغائب والحاضر والثانية بين السيميائي والظاهري والثالثة بين المجرد والعيني أو المجسد. (السيماء والتأويل، ص54)
وإذا عددنا السّيرة هي محكي النفس التي فيها تتجسد هذه المقابلات في شكل تاريخ ومذكرات ويوميات واعترافات، فإن السيرة الروائية الغيرية لا الذاتية هي الأكثر جذبًا للكاتبة العربية، وبما يجعل كتابتها عملًا روائيًا ليس من الأدب الشخصي في شيء، لأن التطابق يظل منحصرًا بين السارد والشخصية الرئيسة كأي سرد ذاتي، أو سرد قصصي ذاتي كما يطلق عليه جيرار جينيت. بعكس السيرة الذاتية التي يكون التطابق فيها حتميًا بين المؤلف والسارد، وهذا ما يحتاج من المؤلف شجاعة يتفوق بها على مخاوف النفس وكوابح العقل الأخلاقية مصرّحا بما هو خفي وسري.
وفي السيرة النسوية الذاتية أو الغيرية التي تكتبها المرأة، يتوزع البوح بين مستويين الأول واقعي وقد تجسد سيميائي في رواية (الأجنبية) في الأسماء التي تضمنتها السيرة، وفي الأمكنة التي دللت عليها العنونة الرئيسة للرواية( بيوت روائية) مانحة الخطاب السردي طاقة إيحائية وبرمزية خاصة، فيها أفصحت الساردة عن مشاعرها المنتقمة من الآخر، متضاربة معه حرمانًا واغترابًا وتشردًا وهجرة.
والمستوى الآخر جسدي وقد تمثل سيميائيا في الأنثى، وهي تداوي هنا، وتجرح هناك (أنا المتنكرة باسم الفن وكل هذا الانكباب على التأليف ما هو إلا ابتكار طرق غير بديهية للتخلص من خوف عال) الرواية، ص18.
ويصبح اختيار الأسماء هو الخطوة الأولى في الانتقام واللا طاعة التي بها تتحرر الذاكرة من معيقات تداعيها، متحصلة من هذا التداعي على اطمئنان جسدي، حقق لها القوة وليس اللذة.
ويتخذ انتقام الساردة من الرجل صيغة رمزية توحي بالانتفاض، واضعة فيه كل خيبات ذاتها وأوجاعها وخساراتها، حتى لا يعود وجوده فاعلا في حياتها؛ بل هو معيق من معيقات تقدمها إلى الأمام. ويدعم تشفير المكان توظيف السيرة من ناحية توالي الانثيالات وسيرورة التداعيات، وبشكل يوحي رمزيا بالهيمنة الذكورية التي تريد من الأنوثة أن تبقى قابعة في الظل بلا صوت، متقبلة حالها كتابع خاضع. وهذا ما ترفضه الساردة (إنني شخص آخر أنا شخصيا لا أعرفه وأشعر بمتعة فريدة بالتعرف عليه).
ويعد (بيت الطاعة) أول مكان مشفر فيه المرأة نص جسدي لا بد من كبح شروره عبر إحاطته بالحجب، وتتبع هذا البيت بيوت أخرى هي بيت نهلة الشهال وبيت بلقيس الراوي وبيت الجحيم وبيت الأهل. وفي هذه الأمكنة كلها يبزغ صوت الأنا مؤنثا (في منتصف التسعينيات من القرن المنقضي اتصلت بي القنصلية العراقية بباريس تدعوني الى زيارتها في مقر السفارة ..لأمر عاجل) الرواية.
وبتشفير السيرة كنص فكري، تتم كتابة تاريخ النسوية الشفوي، وعلى الرغم من التعامل الحذر الذي تسلكه الساردة مع تداعيات ذاكرتها وذاكرة الشخصيات التي تسرد عنها حكاياتها؛ فان دراماتيكية ذلك التعامل تظل فاعلة بالمونولوجات الداخلية التي بها تكشف الساردة عن المشاعر المتضاربة والمفاجآت الصادمة في التعامل الفحولي مع عمومية الجسد الانثوي. ولا يكون من منفذ للانتقام من هذا الواقع سوى بالتساؤلات التراجيدية (أهو ذاك الرجل نفسه؟ رجلي الفادح الجمال الذي كنت أخبئه للشدائد، والذي كان مثابرا على الوجود في وجودي ؟!) الرواية، ص9. وقد تتخلل الاسئلة في أحيان كثيرة سخرية سوداوية (إن إنسانيتي تحتاج إلى إعادة تعريف) الرواية.
ويظل الإطار المرجعي في السيرة إيحائيا بسيميائية الصور والأصوات التي حققت كفاءة أدبية بها تصاعدت دينامية الحبك، ومعها تصاعد مستوى التشفير وتعالى التوتر بأعراف بلاغية وإشارات ذات إحالات سياقية قد تتطابق مع العالم الخارجي لاسيما تلك الإحالات المتعلقة بطفولة الساردة، بدءا من المنزل الذي امتلكت فيه هويتها الثقافية، ومرورا بجدتها وتزمتها الذي أرهبها، وانتهاء بالوالد وتهافت أبوته وأعراض المجتمع المرضية، ومنها الخوف وسلالاته التي رسمت للمرأة صورة جسدية، عليها أن تتأطر داخلها.
فتوجه الساردة فعل الانتقام سيميائيا لهذه الصورة فتقلبها ماديتها إلى منحى جديد ذي فضاءات ثقافية، تراها سيمون دي بوفوار حضارية، أي( أنه كلما تقدمت الأمم، تفشت التناقضات في المجتمعات البشرية) ( كيف تفكر المرأة) وهي التي تساءلت ما الذي صيّر امرأة القرن العشرين أقل مناعة في مقاومة الاضطراب من جدتها في القرون الماضية؟
وبالرفقة النسوية والأحاسيس الامومية تتجلى السيرة فعلا نسويا، تعززه الساردة بإشارة ميتاسردية مفادها أن ما تحكيه هو سيرة مضادة للرواية وليس رواية. وفك شيفرة هذه الإشارة يدلل على أن المؤلفة ترى العالم لا عقلانيا تحكمه القوة وليس العقل.
وما من سبيل لمواجهة قوته بالعقل غير الإرادة التي بها تتمكِّن المرأة من التغلب على العقبات وقد فرضت سطوتها على ذكورية الواقع وجعلت منظومته القيمية تذعن لمبتغياتها. وفي مقدمة تلك المبتغيات جعل رؤيا العالم نسوية لا ينفصل الجسد فيها عن الفكر، وقد تم تشفيره ثقافيا باتجاه الجسدنة لا الجسدية.

عرض مقالات: