منذ فترة وأنا منشغل بالفن التشكيلي، قادني إليه أول الأمر الصكار ونحن في البصرة، كان يريني بعض خطوطه ولوحاته ، ثم الفنان سعد علي في هولندا، عندما امتزج شراب النبيذ بلوحاته فكتبت عنه كتابا، ثم الفنان فاخر محمد، من ايام عمان، وتابعته لأنجز عنه مقالتين كبيرتين، ، ومن ثم الفنان بشير مهدي، يوم تعرفت عليه ونحن في متحف لاهاي نشاهد لوحات من القرن السابع عشر، واخيرا كتبت عنه أيضا،، وها أنا انتهي تقريبا من دراسة عن الفنان هاشم حنون، الذي تعرفت عليه في عمان، وواصلت تتبعي له لأنه فنان له خصوصيته، وانجزت كتابا عنه، ثم الفنان محمد مهر الدين الذي اعده قمة في الرسم، وسبق ان اصدرت ثلاثة كتب عن الفن التشكيلي، اليوم يطرق بابي الكومبيوتري فيلم عن رامبرانت، قدمه الفنان هاشم حنون، دعا المشاهدين الى رؤيته، وعلى الرغم من أن  رامبرانت عاش في القرن السابع عشر، إلا أن ما قدمه الفيلم الرائع عنه، ادهشني كثيرا، إن لم أقل أنه اعاد إلي هدوءا قلقا كنت افتقده عندما أقرأ كتابا أو أكتب مقالة، يأخذني الفيلم إلى عوالم ذاتية استمتعت وشعرت اني غارق في الوان رامبرانت كما اغرقنا الفيلم في تفاصيل حياته، وفي الخلفية العامة نجد كيف يكون الطاعون سلطة تهدم كل البناءات الوليدة، ابتدأ يقضم  اطفاله ثم زوجته ، قد تكون الاسباب مختلفة، لكن الموت واحد، ومع هذه الحياة تشع ألوانه على البليت الذي صور العالم كله باختلاط ألوانه والقدرات المعبرة بعلاقته مع الفرشاة وهو يرتل تراتيل الخروج على تعاليم الكنيسة كما الخروج  على تقاليد الرسم.

في حمأة هذه الاحتدامات بين الفن والحياة، الصراع من اجل الحياة والموت، نجد الشعر ينّز من بين حالات صفاء لا مثيل لها يقول في واحدة من الكلمات التي لا تتكرر، وهو يخاطب ابنه ( دع الفرشاة تشق طريقها إلى كينونة الأشياء). أبدا لم تكن الفرشاة في يده كما لو كانت يده تقودها، هذا ما لاحظنا وهو ينهار ميتا لتحتل الفرشاة بحركة دينامية باطن يده وكأنها تمسك بها. . ويقول في كلمة اخرى، (الأدباء يتصورون أن اللون كلمة، أنهم لا يقرؤون). بالفعل عندما يكون اللون كلمة لا يقرأ اللون إلا بوصفه كلمات، ولكن للون لغته وعلى الأدباء ان يبتعدوا عن الفن ان لم يفهموا لغة اللون.

كانت امستردام ولايدن حاضرة في ثنايا لوحاته حياته رفض للعلاقات الاجتماعية والكنسية والتجارية وصفقات وقد ربط الفيلم بين حركة الاقتصاد المديني في امستردام منتصف القرن السابع، والفن، وكان يقول انه لا يبالي إن عاش غنيا أو فقيرًا ما دمت ارسم، الحرية في الرسم. فالرسم عنده هو الجمال، "الجمال هو الحقيقة".

فلسفة رامبرانت أنه لا يعير اهمية لمجتمع الرأسمال الذي يتاجر بالناس ويترك الفقراء نهبا للطاعون، وها هو يدفع ثمنا باهظا عندما بيعت لوحاته تسديدا لشراء بيت. يتعامل رامبرانت مع الاشياء ليس بمظاهرها، بل بثقلها، فالأشياء ليست خفيفة الأشياء المهمة ثقيلة، حتى لو كانت فرشاة، الثقل فلسفة وجود الأشياء وليس ماديتها. فالفن تجربة مستمرة، والفرشاة ليست إلا الخبرة، الفن يفيض بالحركة وما الرسم إلا قابلية أرواحنا. دائما يكرر إن للأشياء حضورها، ويوصي طلابه العشرين اياكم أن تستسلموا لهم، ويعني الملاك والقضاة وأصحاب السلطة، فهم يدمرون الفن.  ثم يردد لا تنسجموا مع العصر، دائمًا كونوا نقيضا له، فجسد الإنسان ليس إلا ثقله وليست حركته أو خفته. أما الإيقاع في الجسد عندما يملك الإرادة، فهو الحياة، والرسم صوت الكلمات والأشياء، وليس شكلهاـ

عرض مقالات: