تستدعي قراءة التجارب الشعرية الكبيرة سبر أغوار حياة أصحابها تاريخيا وابداعيا، وترى في تجربة الراحل علي الشباني شاعرا فذا ومناضلا شيوعيا صلبا كما تجد تلك العلاقة المبكرة في ولعه بكتابة البيانات ، ولعل البيان الذي نمنحه الرقم (١) هو ذلك الذي أصدره في شتاء عراقي مغلف بالرعب في شباط الأسود ١٩٦٣ حيث استولى مع رفاقه من شيوعيي مدينة الديوانية على الة كاتبة واصدروا بيانا ارعب قطعان الحرس القومي فكانت ضريبته اقامته الأولى خلف قضبان سجن الحلة المركزي الذي كان مزدحما بعدد كبير من مثقفي العراق ولعل من أبرزهم معلمه الأول مظفر النواب.
كان عود علي طريا وقتها لكنه صلب . ومنذ ذلك البيان راحت سنوات عمر هذا الشاعر تشهد عصف الأحداث التي يجابهها بشجاعة وقوة ونتاج شعري منح حركة شعر العامية العراقية إيقاعات التجديد الهائلة بكشوفات جمالية باذخة.
في العام ١٩٧٢ كتب قصيدته ( بيان للزمن المذبوح) وفي تموز نفس العام قرأها في المهرجان السنوي الذي عقد في مدينة السماوة ، كانت هذه القصيدة مشحونة باحتجاج الشاعر وغضبه بمثابة البيان رقم (٢) اذ وضع مقدمة لها من مسرحية شعرية لمظفر النواب ( الشاعر ليس استيرادا) التي وضعها كمقدمة لمجموعته الأولى( للريل وحمد ) : ( من يبقى حيا يتعذب ) . هذه الجملة المعترصة اخذ بها علي ليصيغ احتجاجه _ بيانه بصراخ عراقي يمزق ليل المحنة والعذابات الطويلة :
( كتبت اسمي ابدرب ريحك زمان الخوف والذله وعذابات السبي/ هاكثر خرسه مفاتيحك).
على ضفة فرات الديوانية يقف الشاعر مأخوذا باسئلته الموجعة ، حيرة وقلق وتشبث قوي بالحياة وصراعاتها الدائمة أمام وراء ومن كل جهات كيانه العنيد:
( محفوره المدينه ابروحي سكته وليل / يلبسني التعب والليل / بجه ابدمي العراق وترس بيه الليل / سكت بيه الضمير ودنكت وحشه وهضيمه الخيل)
كم هي منهكة ومحزنة تلك المناجاة التي تعتمل بروح شاعر كالشباني حتى يكاد يضيق بها لفرط حبه لحياة عاند لأجلها كل أحلامه المؤجلة بقوة الأقدار حتى بات غائبه قاسيا وهو ينأى بعيدا:
( يهلبت واهس ابروحي يجيبك يوم / جاهوه المفارك دوم / مر ليلة مطر بالنوم/ مربيه سواجي..مر بواجي مر عشب/ مر بيه ولو بس انته تلكاني حزن وأسرار ).
في صراع الشاعر مع سلطة غاشمة قاسية يأخذ الصراع اشكالا لا تشبه إلا قصائده ، بالشعر وحده يواجه اقدارها ويقارع قاذورات أجهزتها القامعة وصحفها الصفراء وأقبية سجونها :
( ذبحوني نذر ع الماي/ مشه دمي جسر ع الماي / كتبوني على اهدوم النثايه ادموع / رسموني ابجرابدهم حزن ممنوع/ ترسوني حياطين وسجج واعيون/ كتب كلبي شعر مجنون).
..وهكذا يستمر تشبثه وتتعالى إيقاعات توسلاته المفزعة ، وصبره الموشك على الرحيل:
( كلبي اركض اريدك توصلنه ابساع/ ولك سباح صبري امتد بعد ماظن تكفي الكاع...اركض يامهرنه ابساع).
ياللمهر من عنيد وبطيء إزاء صيحات شاعر مسكون بالحدوس كأنه يقرأ الغيب حيث يعلن بينما توشك القصيدة أن تنتهي :
( بيان : يمنع مايلي: الشعر الشعبي و الخوف/ والتسكع آخر الليل ، الجنس والصداقات) .
لكن صرخته اقوى :
( لا.. بوجه السلطان اصيحن لا..واكتب خوف الولايات)
ماهي الا عامان وأصدرت حكومة البعث قرارا يحظر تداول الشعر الشعبي حفاظا على اللغة العربية الام إلا أن القرار لم يدم طويلا فبمجرد حاجة السلطة نفسها له مع بداية الحرب مع إيران حتى استدعته مع وجبات الجنود الاحتياط.
ما أوحش القبر وما أقسى ظلمته أيها الشاعر المضيء.