الذي يتجول في بستان شاعر كبير ومهم مثل الشاعر الراحل (كاظم اسماعيل الكاطع ) يجد ان ذلك البستان تتوزع بين الواحه وجداوله فسائل الموت وشجيراته ولا شك ان الراحل كان يحرص اشد الحرص على ان يشتمل بستانه على صنف كهذا من المغروسات ذلك ان الموت كان يشغل حيزا كبيرا في فكر الكاطع وثقافته الاجتماعية والفلسفية فكان الموت يرافقه كظله وقد سرق منه اقرب الاحبه لقلبه ولده الصغير (حيدر) وزوجته (زكية) التي احبها ايما حب.

اذا ما تناولنا ابياتا متفرقة من قصائده التي احتوتها مجموعته الكاملة والتي صدرت عن دار الجواهري للنشر والطباعة والتوزيع قبيل سنوات قليلة من وفاته نجد ان الموت كان الهاجس الاكبر الذي يؤرق الراحل كاظم اسماعيل الكاطع فهو يعاتبه هنا ويستنطقه هنالك ثم نراه يحاول ان يتعرف على حقيقته بل يتجاوزالكاطع كل ذلك عندما يبحث عمن يقف بوجه الموت ليزجره فيكف عن غيه ويرتدع عن اذاه الذي يلحقه باراوح الآدميين ففي قصيدة (منشار الورق ) التي نظمها في تموز عام 1971 نتعرف على طبيعة تلك النظرة التي كان ينظر الكاطع من خلالها الى الدنيا وهو يقترب بنظرته التشاؤمية تلك من كبار الفلاسفة امثال ابو العلاء المعري وفريدريك نيتشه.

ودنيتك ...

سالوفة خرسة

ومنبر اسود

واذن طرشة

وكاع مشتولة منايا

وغصن ميت سمه هرشه

فالدنيا في نظر الكاطع لا تفصح عن حقيقتها خرساء صماء لا يستطيع احد ان يحظى منها بشيء من الفائدة التي تروي له ظماه فيما يخص جملة من الاسئلة والاستفهامات وهي بعد ذلك منبر يحيط به السواد من كل جانب لا تقام اركانه ولا تثبت قواعده الا في ايام ومناسبات الحزن (المأتم )التي كان شاعرنا يتنقل بين سرادقه كل يوم بسبب كثرة الوفيات واما ارضها فتنتشر فوق اديمها اشواك الموت الذي يتسلل عبر الجذور الى جذوع الاشجار فيحيلها في آخر المطاف رماداً تذروه الريح .

في قصيدة (لوحة اعلانات ) نتلمس اثار البعد السياسي جليا واضحا كما هو حال اغلب قصائد الكاطع التي لم تكن تخلو من ذلك الاثر فالكاطع في هذه القصيدة يندد وبشكل غير مباشر بجرائم السلطة وقد استوقفته صور ومشاهد المقابر الجماعية التي غيبت الاف الضحايا دون ان يعلم احد عن مصيرهم شيء يذكر.

ميت بس مادلي بكبري

ميت مادليك بكبري

كلب كل اصخور الموتئ

ما تقره اسمي

وتندل كبري

ذات البعد نجده في قصيدة (توازت ) حيث استعار الكاطع صور الطريق الواصل بين دولة الكويت ومحافظة البصرة بعد هزيمة الجيش العراقي عام 1991 وقد غطت النيران آليات الجيش العراقي بينما انتشرت جثث الجنود على جانبيه .

توازت والله يستر من الموازه

كرهت الروح

جن روحي طريق اتكتلت بيه ناس

وجنازه وره جنازه

في قصيدة (شمعة )

نستمع للكاطع وهو يعاتب نفسه ويوبخ ذاته وقد عاد للتو من دفن احد احبته وهو ما يزال حيا يأكل ويشرب ويمشي في الاسواق وهذا برأيه مما يعاب عليه فالاجدر بالانسان ان يموت بموت احبته وفراق خلانه .

دفنته وجيت :

اي والله

واللك رجلين جابنك مشي ورديت

اي والله

اي والله ؟

الك جفين تتحنه بتراب المكبرة

وما تستحي من الميت

اما في قصيدة (رسالته الاولى) فأن الكاطع يخلع صفات الدفان على شخصه لكثرة ما ودع من اهله وناسه واحبائه فيقول

بيه اغبار الف مدفون

وكل جناز

يتمنى حزن وجهي ايتشيم بيه

وانه الجناز

يوميه ازتن للكبر تابوت

وك كلبي خلك تابوت

في قصيدة ( مرثية الفارس المسافر ) يحاول الشاعر الراحل بكل قواه ان يكشف لنا عن تلك الآلية التي يعتمدها الموت ويسلكها الفناء وهو يقبض الارواح ويروع النفوس فالموت يجذب اليه كل جيد ونفيس وينفر عن كل ما هو رخيص ورديء وهو بذلك يكون اشبه بالمغناطيس الذي يجذب عنصر الحديد ويترك ما سواه من معادن تكون اقل من الحديد بجودتها ونفاستها

ابلايا صوت

الموت يدبي ابلايا صوت

ايحوف

بس يغمز بصبعه

الموت مغناطيس

يلكف كل حديد

ويترك العود المريض

وهذا طبعه

وهاي كل افعاله سود

وهاي كل اسطوره سود

ينهب اعثوك الرطب من نخلة تبجي

والحشف يبكه ويزود

قصيدة ( وياك اني حرب ) يستكثر الكاطع مرة اخرى على نفسه انه ما يزال على قيد الحياة على الرغم من ان الموت كان زائره الدائم وظيفه المقرب

جم موت اجه وما متت

يالبيك سبع ارواح

وياك اني حرب

كلمن يشيل سلاح

تكتلني لو اكتلك

بالحالتين ارتاح

وهكذا يمضي الكاطع بسجالاته مع الموت فيتخيله كائنا حيا يقف امامه ليجادله ويعاتبه من صميم فؤاده وهو يطلب من الموت ان يستحي وان يعرق جبينه وهو ياخذ احبته الى حيث اللاعودة

حك الموت

لاجن نعتب اعله الحك

هم مرة استحى

هم كصته تعرك

عجب من شاف نعشج شال

لاعينه استحت

لا بالجذب دنك .

لا يلبث الكاطع الا ان ينتفض هذه المرة وبقوة في قصيدة (رياض احمد ) وهو يبحث عمن يقف بوجه ذلك المارد الجبار الذي يسمى الموت ليترك اثرا على خده ويوقفه عند حده

ضعيفين وعلينا الموت يتعده

ياهو اللي يوكف الموت عد حده .

لكن هل كان الكاطع يخاف الموت زائره الدائم وظيفه المقرب نعم كان الكاطع يخاف الموت كسائر البشر الا انه كان يستقوي بشعره وحكمته على ذلك الخوف فيولي ذلك الخوف مدبرا وكيف لا وقد ايقن الكاطع بان ليل الموت ليس كما يتصور البعض ظلام دامس بل هو ليل تتخلله اغاني الراحلين (حضيري ابو عزيز وداخل حسن)

هسه ارتاح

لا تستاحش امن الموت

بي داخل يجلبنه لثنعش ساعة الليل

وحضيري يغني اشلون الك

مصباح

لم يكن الموت بطبيعة الحال هو الهاجس الوحيد الذي ينتاب فؤاد شاعرنا المبدع فقد كان هناك اكثر من هاجس يقض مضجعه ويؤرق جفونه حاله في ذلك حال اولئك الشعراء العظام الذين خبرتهم التجارب وصقلتهم المصائب ليأتي شعرهم طافحا بالالم متفجرا بالحزن والحكمة والابداع.

عرض مقالات: