رواية "ليلة المعاطف الرئاسية" هي الرواية الأولى للكاتب العراقي محمد غازي الأخرس. هي في الواقع الأمر ليست مجرد رواية: إنها لعبة سردية مدروسة تقودنا داخل متاهة لا نهاية لها، يتداخل فيها الواقعي بالإيهامي والفنطازي بالأسطوري. وهي كما أرى، مؤشر مهم على نضج التجربة الروائية الجديدة في العراق، وعلى تجاوز كتاب الرواية العراقيين مرحلة الفطام وانتقالهم إلى مرحلة التحدي والعبور إلى لغات وثقافات أخرى.
الرواية تستند إلى بنية معمارية وهندسية مركبة، يمكن القول أنها عمارة ذات طابقين، كل طابق له أجواؤه وشخصياته، حتى ليشعر القارئ بالحيرة من مغزى كتابة حبكتين أو حكايتين متوازيتين، وتنتميان إلى زمنين ومكانين متباينين، لا يمكن للخطين المتوازيين أن يلتقيا، لكن محمد غازي الأخرس، أكد لنا، من خلال هذين النصين السرديين المتوازيين، أن الخطين المتوازيين يمكن أن يلتقيا داخل الجحيم العراقي، كما كشف عن ذلك في الفصل الاخير الموسوم "فك الأشتباك"، لأنهما ينبعان من منبع واحد، وأنهما في النهاية متكاملان ويشكلان الصورة الكاملة للعبة الصور المقطعة، وبالتالي يمهدان الطريق للخروج بحذر من المتاهة وإعادة تأمل الدلالات التأويلية والسيميائية للرواية.
هي واحدة من الروايات العراقية القليلة التي تسبب صدمة للقارئ، قد تدفعه الى الانكفاء والتوقف عن القراءة، هربا من العالم الكابوسي، الكافكوي، الذي خلقته. القارئ العادي بحاجة إلى شجاعة وإرادة لمواصلة قراءة مثل هذه الروايات الموجعة والفاجعة. شخصيا لم أستطع أن أكمل بعض روايات الروائي العراقي نصيف فلك ، ومنها روايته" قياموت"، لأنها كانت صادمة ومرعبة ومخيفة، لأنها كدست كل هذه الأوجاع والميتات وقذفتها في وجه القارئ، دون أن تتوافر على الأداة أو المنظور الذي يخفف، إلى حد ما، من حدة هذا العالم الدموي الوحشي والمتوحش معاً. لكن الروائي العراقي الجديد، والحداثي بحق، اكتشف في الكوميديا السوداء منظوراً يترشح، اذ (يفلتر) من خلاله قتامة العالم الذي ينتهك الكرامة الإنسانية بلا رحمة. وهذا ما فعلته هذه الرواية فقد كان منظور الكوميديا السوداء هو العدسة التي أطل من خلالها المؤلف على عوالمه لينقذ القارئ من السقوط في هاوية "التماهي" العاطفي والنفسي مع شعرية القسوة (الآرتورية). وبالتالي تمكينه من استعادة توازنه وتماسكه ليواصل القراءة عبر منظور نقدي تأملي قريب مما يوفره مفهوم "التغريب" في المسرح البريختي.
يمكن القول أن"الكوميديا السوداء" هي الإسفنجة التي امتصت كل هدا القبح والتوحّش وجعلت القارئ يتلقى الرواية دونما تفجع أو عاطفية سنتمتالية مفرطة أو سقوط في التماهي.
يستهل الروائي روايته التي تضم أربعين فصلاً مرقماً، هذا إذا افترضنا أن الفصل الأخير غير المرقم والذي يحمل عنوانا دالاً "فُض الاشتباك" هو الفصل الأربعين، بسرد عبر ضمير الغيبة، لكنه في حقيقته صورة مموهة لأنا الراوي المتكلم، كما يذهب إلى ذلك تودوروف، نجد فيه الراوي الضمني الذي يسميه المؤلف بالقارئ في مواجهة رجل يرتدي خوذة وهو يهبط من دبابة:
"- من أنت؟
- أنا الجنرال كوكز، لا تخف يا أخي.." (ص٥)
- وبذا يقودنا المؤلف عبر عشرين فصلاً إلى عالم الطابق السفلي من معمارية الرواية، بكل غرائبيته وفنطازيته. وسنكتشف أن هذا العالم هُو كناية عن عالم التوحّش الذي نسجه النظام الدكتاتوري السابق، وسوف نكتشف لاحقاً من خلال قراءة تأويلية فاحصة أن هذا العالم يتماهى مع "العالم السفلي " في الميثيولوجيا الإغريقية والرافدينية، وفِي هذا الفصل سيحسم الجنرال الزمن الذي سوف تستغرقه صحبة الجنرال للقارئ وهي مجرد ساعات:
- كم سنتأخر ؟
- مجرد ساعات. (ص٦)
ولا يمكن للقارئ العادي أن يتخيّل لحظةً أن الزمن السردي في الرواية هو مجرد ساعات. لكن هذا هو الواقع، فأحداث الرواية كلها تجري في المستويين السرديين خلال بضعة ساعات أو ليلة واحدة وهو ما يؤكده عنوان الرواية "ليلة المعاطف الرئاسية".
ففي الفصل الثاني، المكرس، لسكنة الطابق العلوي من عمارة الرواية يتلقى الراوي الذي يوظف ضمير المتكلم مكالمة هاتفية غامضة تطلب منه أن يقدم خدمة إنسانية لشخص يعرفه من خلال اصطحابه بسيارته لإنجاز مهمة محدودة لا تستغرق الكثير من الوقت. ويكتشف الراوي أن النداء الغامض كان من مدير مدرسته الأستاذ عواد الذي استنجد به لإنجاز هذه المهمة، وربما طلب منه أن ينهض بالمهام بناء على توصية خاصة من الجهة التي طلبت هذا الحضور، تماما مثلما اكتشف "القارئ" في الفصل الأول أنه استدعي بوصفه قارئا جيداً للشعر من قبل شاعرة تكنّى بـ"الخاتون". وهكذا تجوب السيارة شوارع بغداد من حارة إلى أخرى بحثاً عن ذلك الهدف الغامض. فهي ـ زمنياً ـ مجرد ساعات للزمن السردي للرواية. ويتأكد هذا البعد الزمني للرواية في الفصل الختامي الموسوم "فك الاشتباك" عندما يقوم الجنرال كوكز في نهاية الرواية باصطحاب الراوي وإعادته إلى بيته:
"فتحت باب الدبابة وجلست. كان الجنرال يتهيأ للانطلاق. نظارته على عينيه، وابتسامة محيرة بدلالتها ترتسم على شفتيه:
ـ كما وعدتك، لم تستغرق المهمة سوى ساعات.. هيا بنا. " (235ص)
هذا هو الزمن السردي للنصين أو الروايتين المتوازيتين. لكن كيف لهما أن يسيرا وبتوازٍ، وهما ينتميان إلى زمنين متباعدين؟ إذْ ان زمن القارئ والجنرال كوكز ينتمي إلى عالم النظام السابق قبل سقوطه، وتحديداً في ظروف الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، بينما زمن الراوي والمعلم عواد ينتمي إلى المشهد العراقي بعد الاحتلال، وتحديداً في فترة اشتداد الصراع الطائفي والإرهابي بين عامي 2005 ـ 2007. بل وأنّى لهاتين البنيتين السرديتين المتباينتين أن تلتقيا في النهاية عبر دمج الشخصيات والوقائع، أمام دهشة القارئ التقليدي، الذي يحتاج إلى تأمل فيما يرى ويقرأ، ربما ليكتشف وحدة هذين العالمين، وأنهما مثل الكتابة على "طرس" ، أو جلد غزال، يكشفان عن عوالم خفية، ممحوة تارة، وظاهرة تارة أخرى، وربما هما وجهان لعملة واحدة.
وبالتأكيد لم يكن ممكنا للروائي أن يحقق ذلك بدون الاستعانة بمقومات التخييل والفنطازيا والإيهام والأسطرة. وهنا تكمن مقدرة الروائي الذي استطاع أن يجمع هذين الضدين كمن يمتطي صهوة حصانين جامحين في آنٍ واحد ليقودهما سالمين إلى الحضيرة. ثمة الكثير من السيمترية البنيوية في الرواية، فهناك في كل مستوى راوٍ قد سمّي "القارئ" ويتحول بقرار من الجنرال كوكز إلى "كاتب"، وقد يسمى بالراوي، ونكتشف لاحقاً أنه ممثل المؤلف أو راويه الضمني وخاصة عندما يتحدث صراحة عن كتابة رواية ( ص184) من خلال مؤشر ميتاسردي واضح، وأخيراً من خلال عثوره على مخطوطة رواية تحمل اسم "ليلة المعاطف الرئاسية" مما يوحي لنا أن هذا الراوي ،الذي سوف يلتحم بشخصية القارئ / الكاتب هو كناية عن المؤلف ذاته، في مؤشر آخر على الطبيعة الميتاسردية للرواية:
"في الظهيرة وجدتني أمام كرفان أصفر.. كانت أمام أريكة منضدة زجاجية حمراء عليها دفتر سميك ذو غلاف أزرق تناولته وقرأت عنوانه "ليلة المعاطف الرئاسية" (234)
وثمة إشارة إلى موت القارئ / الكاتب الذي تؤكده الشاهدة "هنا يرقد القارئ.. هنا يرقد الكاتب" (ص234) لكني أعتقد أنّ القارئ / الكاتب لم يمت، وإنما اندمج بشخصية الراوي/ المؤلف. إذ إننا نعلم أن القارئ / الكاتب الذي اصطحبه الجنرال كوكز لم يحضر بسيارة وإنما في الدبابة، لكن ثمّة إشارة في الصفحة الأخيرة إلى أن هذا القارئ عندما خرج من المعسكر، وقبل أن يلتقي بالجنرال كوكز في البوابة كان قد ألقى نظرة أخيرة على سيارته المصادرة:
"تلفتت ورائي لأرى آخر صورة لسيارتي. كانت مركونة قرب الدواليب" (ص 235) ونحن نعلم أن من جاء بسيارته هو الراوي الذي اصطحب مديره الأستاذ عواد في تلك المهمة القاتلة، وليس القارئ/ الكاتب، الذي جاء بدبابة الجنرال كوكز. وهو ما يؤكد اندماج شخصيتي الراويين في النصين أو البنيتين السرديتين المتوازيتين.
ومن مظاهر السيمترية في الأنساق البنيوية للرواية أن النص ينهض على شخصيتين مركزيتين، قد يكون ثنائياً: القارئ والجنرال كوكز من جهة، والراوي ومعلمه الأستاذ عوّاد من جهة أخرى. وهناك أيضا انتظام سردي لا يمكن تجاهله يتمثل في تناوب السرد بين الحبكتين. فمعظم الفصول الفردية الترقيم مكرسة لسرد حكاية القارئ والجنرال كوكز، بينما خصصت الفصول ذات الترقيم الزوجي لسرد حكاية الراوي ومعلمه الأستاذ عواد. ومثل هذا التناظر يمنح الرواية توازناً وتكاملاً يساعد على حركة البنيتين السرديتين بصورة متوازية قبل انحلالها واندماجهما معاً في الفصل الأخير الموسوم (فُك الاشتباك). لقد كانت الرواية تتحرك من عالم الواقع الى عالم الفنطازياـ ومنه الى عوالم الغرائبية والأسطرة . وهذه الأسطرة ليست على مستوى أسطرة الشخصيات فحسب، بل ان الرواية بكاملها قد تأسطرت وخلقت نظامها الميثولوجي الخاص بها.
لقد نسج المؤلف عالماً روائياً غريباً، يرمز الى أقصى درجات القسوة التي تعرض لها المجتمع العراقي في زمن النظام السابق، وخلال سنوات الحرب الطائفية بعد الاحتلال. وليس من المصادفة أن يكتشف القارئ وجود (عالم سفلي) داخل المعسكر مخصص للموتى. اذ أن في ذلك اشارة مهمة للترميز الى قسوة النظام الشمولي السابق، وتشابهه مع صورة "العالم السفلي" في الثقافات والميثيولوجيات الإغريقية والرافدينية. وهذا ما يلزمنا بتقديم قراءة تأويلية للرواية اعتماداً على الشفرة التأويلية عند رولان بارت نظراً لوجود تماثلات بين العالم السفلي في الميثيولوجيا ونظيره في عالم القمع والموت، في ظل النظام السابق، والذي قدمته رواية "ليلة المعاطف الرئاسية".

عرض مقالات: