كثيراً ما تأملت جدارية الفنان الكبير فائق حسن والتي تقف شامخة في ساحة الطيران ، كنتُ صغيراً وانا آتي في صباحات بغداد السبعينية المبكرة مع والدي لتلك الساحة حيث مسطر العمال الذين كتب عنهم الشاعر سعدي يوسف قصيدته الجميلة ( تحت جدارية فائق حسن ) كانت الجدارية تسمى بجدارية ثورة 14تموز ومن ثم أطلق الشعر عليها تسميته من خلال قصيدة سعدي جدارية فائق حسن. وفيها تجتمع ألوان الثورة وآهات العمال وبدلاتهم ، وظلت حمامات ساحة الطيران تحلق في فضاء جدارية فائق حسن الفنان الذي هو أحد مؤوسسي معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يديه خيرة فناني العراق الكبار ومنهم كان الفنان الراحل الكبير محمد مهر الدين المولود في مدينة البصرة عام 1938 والذي يصفه نقاد الفن بأنه شاغل الحركة التشكيلية ومتابعيها . محمد مهر الدين في لوحاته كان يرصد تحولات الإنسان المعرفية والوجودية هو صاحب المنحنيات ومشّكل السطوح الصلدة التي تسترق السمع ، تتقاطع فيها خطوط طويلة وأخرى عريضة وبإتجاهات مختلفة لا نهاية لها في بعض الأحيان ، ثمة سطوح تتعرض داخل لوحة مهر الدين الى الأزاحة والإزالة والتجريف وحسب التقنية التي يستخدمها الفنان لمنح السطوح وصورتها الخيالية صورة من الواقع الذي نعيشه وهنا سر إبداعه في كل لوحة . تتلمذ العديد من المبدعين التشكيليين على يد محمد مهر الدين الذي رحل عن عالمنا في شهر نيسان من عام 2015 . هو من جيل الرواد الثاني ويمتلك إبتسامة عالية الفرح تشع بوجه من يجالسه على الرغم من كميات الحزن الشديد التي تظهر جلية في وجهه المتعب وروحه المنكسرة وكذلك تبدو أكثر وضوحا في أغلب لوحاته التي يرسمها صاحبة السطوح والخطوط والمنحنيات التي في الغالب تمقت الواقع المزري الذي يعيشه الإنسان جراء التهميش والجوع والحروب ومآسيها التي تظهر دائما في لوحاته واضحة العتمة . وذات ليلة عمّانية باردة كنا نسكن في غرفة داخل بستان وبيت من صفيح وسمعتُ أصواتا يعلوها الضحك كانت الأصوات تأتي من إتجاه السلّم الهرمي المتردي والآيل للسقوط والذي يؤدي الى هاوية عميقة مخيفة ، شاهدت الكاتب علي السوداني يمسك بالفنان محمد مهر الدين ويهم بالوصول به الى غرفتنا والحذر من الهاوية ، سارعت لانقاذهم من هاوية السلم وأصطحابهما الى الغرفة ، في تلك الليلة الشتائية الجميلة رغم مرارة الغربة والخوف من المجهول التي استمرت حتى الصباح بوجود الشاعر حسب الشيخ جعفر ومهر الدين واياد صادق وآخرين، كنت أشاهد الحزن في عيون الجميع ، لكن مهر الدين كان حزنه طاغياً . سنوات أربع كنت ألتقيه في كل زيارة يأتي بها الى عمّان وهو يقيم المعارض الواحد تلو الآخر وتبقى الصحافة تكتب عن لوحاته الكثير من الدراسات والنقود حتى ذات يوم كلفني البياتي بإعداد كتاب بمناسبة ميلاده الثالث والسبعين وبعد ان أكملت الكتاب الذي كتب مقدمته الناقد د علي عباس علوان ثم تبرع مهر الدين الذي كان معنا في تلك الجلسة بأن يقوم بتصميم غلاف الكتاب ، وكان واحدا من أروع الكتب تصميما .
ومن خلال حضوري للعديد من معارض مهر الدين داخل العاصمة عمّان عرفت الكثير من خفايا لوحاته وكيف يبتكر التقنية في الفكرة والرسم ، وقد استوعبت درس الفن التشكيلي الذي لا يختلف عن الشعر لا بل قد يتفوق عليه وأصبحت منذ تلك السنوات أميز أي لوحة فنية تشكيلية لعراقي أو عربي وفيها تشكيلات السطوح التي يتقنها بمهارة عالية مهر الدين ، وغالباً ما يؤكد لي الكثير من الفنانين الذي يرسمون بطرق قريبة من تشكيلات سطوحه انهم من تلاميذه في معهد الفنون الجميلة . في بداياته الأولى عمل مهر الدين مدرساً للرسم في مدرسة العرفان ببغداد وفي عام 1961 حصل على زمالة دراسية الى بولونيا وحصل على شهادة الماجستير في الرسم وتأثر بالحركة الفنية داخل بولونيا وقد أقام مهر الدين أول معرض له في قاعة رفعة الجادرجي عام 1965. وعن أعماله الفنية في احدى المقابلات الصحفية قال الراحل الكبير محمد مهر الدين : ( بالرغم من كل هذه التطورات فإن أعمالي تشير إليّ حتى وهي لا تحمل توقيعي ، أنا فنان تجريبي . عندما كنت مدرساً في معهد الفنون الجميلة كنت أشعر بمتعة العطاء ، لم أبخل بتعليم طلابي التقنيات والأسلوب ، وأفرح حين أرى طلابي فنانين كبارا ، لكن حتى الآن لم يتجاوزني أي من طلابي أو يتفوقوا عليّ ، وكنت سوف أفرح لو حدث ذلك رغم أنهم أنجزوا أعمالا مهمة ) ..

عرض مقالات: