يبدو لي أن الرواية العراقية، على الرغم من كل ما حققته في العقد أو العقدين الأخيرين لا تزال تبحث عن قرائها كما نتمنى أن يكونوا، عدداً ونوعاً، خصوصاً أن هناك أصواتاً نسمعها دائماً وهي تعمل، وربما من حيث لا يقصد أصحابها، على إبعاد القارئ العراقي عنها، من خلال البكائيات عليها والتعبير عن عدم الرضا عنها والتثبيط والتقليل من قيمتها وإنكار أي جديد فيها. ومن خلال تجربتي العملية أنا متأكد من أن أصحاب هذه الأصوات غير مطّلعين عليها بما يكفي، خصوصاً أنهم، وكما الغالبية يغفلون عن أن أكثرية نتاجات أي فن أو كتابة تكون عادة من المستويات المتوسطة وقد تميل إلى ما دون ذلك، بينما لا يشكل المتميز إلا النسبة الأقل، وبالتالي من الطبيعي أن يجد القارئ عادياً كان أو ناقداً، مثل هذا المتميز وكما الجديد قليلاً في النتاجات الروائية العراقية. لكن واقع الحال أن هذه الرواية قدّمت المتميز والجيد، في السنوات العشر أو أكثر قليلاً الأخيرة، وضمن هذا يمكن رصد غير قليل من الجديد والتجديد، وهو يتوزع على ما هو موجود أصلاً لكنه ازداد الآن، وما هو موجود ولكنه صار يُعالج بأشكال ومداخل جديدة، وما هو جديد كلياً. فمن ما جاءت به أو تمثّلته الرواية العراقية من موضوعاتٍ، وما مارسته واستخدمته وأنتجته فنياً، معالجة واقع العراق ما بعد التغيير المتّسم بالعنف والتطرف والإرهاب الناتجة، كما نعرف من التطرف الديني والطائفي، وكل ذلك بجرأة وحرية- صار الروائي يتمتع بها إلى حد كبير- وهنا، وعلى عكس ما يدّعيه البعض، وكالعادة انطلاقاً من عدم اطلاع، لا يكاد يكون هناك روائي عراقي واحد في الداخل والخارج، لم يتناول هذا أو جوانب منه، بل ربما لا أجازف حين أقول قليلة جداً هي الروايات التي لم تتطرق إلى هذا بدرجة أو بأخرى وبشكل أو بآخر، ولا بأس من أن نحيل إلى روائيين مثل أحمد سعداوي في "فرانكشتاين في بغداد"، وبرهان شاوي في "مشرحة بغداد"، وخضير الزيدي في "فندق كويستيان"، وزهير الهيتي في "التراب الأمريكي"، وسنان أنطون في "يا مريم"، وعلي بدر في "الكافرة"، ولطفية الدليمي في "سيدات زحل"، وميسلون هادي في "جائزة التوأم" و"حلم وردي فاتح الليل"، وهدية حسين في "ريام وكفى". وضمن ما يقترب من الجديد في الموضوعات والمعالجات قدم الروائيون الآخر بأنواعه وأشكاله، الأجنبي والديني والقومي والطائفي، مستفيدين من الحرية والاطلاع والتجربة مما أتاحته لهم المرحلة، من هؤلاء مثلاً إنعام كجه جي في "طشاري"، وسعد محمد رحيم في "ترنيمة امرأة.. شفق البحر"، ، وشاكر الأنباري في "أنا ونامق وسبنسر"، وشاكر نوري في "جحيم الراهب"، ومحمود سعيد في "ثلاثية شيكاغو"، وميسلون هادي في "شاي العروس"، ونجم والي في "ملائكة الجنوب"، ووارد بدر السالم في "عذراء سنجار".
وضمن مسارات الجديد، اشتركت الرواية العراقية مع الكثير من الروايات العربية، يأتي ما اسميته في بعض دراساتي الأخيرة استحضار المسكوت عنه الاجتماعي في التاريخ، مما تجاوزه التأريخ الرسمي، مستفيدين من الحرية التي صارت تمكنهم من تجاوز التحفّظات بل خرق المحرّمات والممنوعات بأنواعها المختلفة من جهة، واعتماد التخييل بدلاً من التسليم للتأريخ نفسه من جهة أخرى، كما فعل لؤي حمزة عباس في "مدينة الصور"، ولطفية الدليمي في "عشاق وفونوغراف وأزمنة"، وميسلون هادي في "حفيد البي بي سي"، ونيران العبيدي في "منعطف الصابونجية"، وإنعام كج جي في "النبيذة". هذا يحيلنا بالضرورة إلى خرق المحرّمات والممنوعات (التابوهات) الدينية والسياسية والفكرية والجنسية في الحاضر، وهو ما مارسته غالبية الروائيين ووسم الغالبية العظمى من الروايات، كما فعلت عالية ممدوح في "التشهّي"، وعلي الشوك في "تمارا"، وزهير الهيتي، في "الغبار الأمريكي"، وطه حامد الشبيب في "سأسأة"، وعلي بدر في "الكافرة".
وتعلّقاً بما هيأه الظرف الحاضر، اهتمّ الكثير من الروائيين بواقع العراق في ظل النظام السابق، مما لم يكن تناوله من قبل متاحاً بالطبع، فلم يجرؤ إلا عدد محدود من روائيي الخارج على تناوله، فاقتحمه روائيو ما بعد التغيير مركّزين، في ذلك، على ما كان هناك من قمع وإحباط وحبس للأصوات ومعاناة بكل أشكالها، كما فعل مثلاً أحمد خلف في "الحلم العظيم"، وعبد الرحمن مجيد الربيعي في "هناك في فج الريح"، وفؤاد التكرلي في "اللا سؤال واللا جواب"، ومهدي عيسى الصقر في "بيت على نهر دجلة".
ومما ليس هو بالجديد كلّياً، ولكنه يحمل شيئاً من الجدة ما يمكن أن نسميه الاستغراق في التفاصيل فهو لم يكن يشكل ظاهرة من قبل، كما صار الآن حين هيمن على العديد من الروايات، وهو توزع ما بين أن جاء مترافقاً مع تراجع هيمنة خط الرواية الحدثي وحبكته، كما في روايات مثل "ثلاثية شيكاغو" لمحمود سعيد، و"حفيد البي بي سي" و"زينب وماري وياسمين" لميسلون هادي، وما لم يتقدم على الخط الحدثي وحبكته كما في روايات مثل "عشق ومونغراف وأزمنة" للطفية الدليمي، ومعظم روايات برهان الخطيب وبرهان شاوي.
وفي العودة إلى كل ما مرّ، يجب أن نشير إلى حضور الذاكرة موضوعاً وأداةً وبنية في جل الروايات العراقية المذكورة وغيرها كثير، وكل ذلك في ضوء فهوم قديمة وجديدة لها.
وأخيراً أود أن أشير إلى أن هناك تجاوزات بدرجات مختلفة للشكل الفني السائد بتجريب أشكال وتقنيات وبنى جديدة، وفي النتيجة تقديم تجارب جديدة، والعديد من أصحابها هم في الواقع أصحاب مشاريع فنية متكاملة أعتقد أنها بحاجة إلى دراسات خاصة كما هي حال تجارب: برهان الخطيب، وبرهان شاوي، وطه حامد الشبيب، وعالية ممدوح، وعبد الخالق الركابي، وعبد الستار ناصر، وعلي بدر، وميسلون هادي، ونجم والي، وآخرين.