تتناول الدارسة النقدية هاهنا مجموعة من القصص القصيرة التي ارتكنت في ثيمتها السردية الى الشارع وما فيه مِن حدث في الأمكنة على جانبيه وحركة وتفاعل للشخصيات فيها، جميعها تكوّن للشارع في النص فضاء يحتويها، وهو أبعدُ أفقاً من الشارع المكان نفسه في النص القصصي، وكما نقل وحلل ياسين النصير:(الفيلسوف لايبينتز 1646 – 1716، أن الفضاء:" مثل الزمن أعتبرُ الفضاء مجرد شيء نسبي"، فـ"الفضاء بالنسبة له ناتج عن جميع الامكنة " وما يعنيه بالناتج ليس جمعاً بين الامكنة إنما استيعاب فضائي لها، ففضاء النص هو مجموعة الامكنة المستخدمة فيه، ولعل هذا الرأي هو الاقرب لمّا يمكن أن نتصوره للعزل بين حدود المكان وفضائيته نقديّاً) -1- .
من هذا التعريف للحدود بين المكان والشارع، في فضاء النص القصصي، نجد في قصة "متاهة الجشع" لفاطمة زواي من الجزائر، أن انطلاقة سيارة المرأة الزوجة بسرعة، تمثل روح النصر لها بعد أن اطلقت عدة ضحكات ساخرة قبل أن تقود سيارتها مسرعة منشية للتعبير عن نصرها المتحقق في نهاية القصة، على الرغم من أن السرد لم يذكر الشارع إلا في السطر الاخير منه لكن فضاء النص الذي احتوى أماكن مختلفة، خلق جوا نفسيا لانتصار الزوجة بتفاعلها في الشارع المكان، من خلال سلسلة ضحكاتها الساخرة مع قيادتها السيارة بسرعة معلنة لنفسها عن الانتصار حيث الشارع مكان عام للاحتفال والناس ترى فيه مظاهر الفرح ولا تعرف السبب الحقيقي الكامن في جوهر الانسان على العكس من الاحتفال في البيت مكانا الذي يتضح فيه سبب الفرح من خلال أفراد الاسرة وعلاقتهم بالأصدقاء من المجتمع.
وفي ذات المحور من فضاء النص والسيارة في الشارع نلحظ قصة "بخاطرك يا لبنان" لإبراهيم ياسين من لبنان، حيث فضاء النص للشارع فاضح لسبب هجرة الشباب اللبناني في جزع من الحياة السياسية وانعدام فرص العمل، إذ حركة السيارة من قرية الشخصية "خليل" الى المطار في العاصمة بيروت، هي حركة تنقل مشاعر النفور والجزع من الاحزاب الحاكمة المتنافرة في الشارع المتفقة في الحكم ضمن محاصصتها الحزبية للوظائف وفرص العمل وكل شيء حتى بكثرة صور زعماء الاحزاب في الشوارع والساحات ومفرق الطرق التي يبصق عليها "خليل " ويسب اصحابها جميعهم، فجميعهم يمارسون الافعال ذاتها في الشارع, بينما مثل حاجز التفيش الذي أقامه احد الاحزاب في الشارع، مع غياب دور الدولة، باتجاه فوضى الاختلاف والصراع في الشارع الذي دفع شخصية "خليل" وغيره من الشباب الى الهجرة خارج البلاد، فالحاجز في الشارع ضمن فضاء النص القصصي هنا يمثل حاجزا لفرص العمل التي تستحوذ عليها الاحزاب، ويمثل حاجزا لحرية التعبير للمواطن، يمثل حاجزا أمام الحياة ذاتها، فأما أن تكون في حزب أو تقف في الطابور خلف الحواجز التي تقيمها الاحزاب. وفي منحى قريب جدا من فضاء النص لقصة "بخاطرك يا لبنان" من حيث الحياة السياسية والمحاصصة الحزبية ورمزية كثرة الصور في الشارع تتماهى منها قصة "ما جادت به شمية الطوفان" لفارس عودة من العراق ،على الرغم من الرمزية الطينية للعراق موطن قديم لصناعة التماثيل والحضارة والدكتاتوريات، إلا انها رمزية جليّة للأحزاب الحاكمة، فالتماثيل الكبيرة رمزيتها للكتل البرلمانية الكبيرة والاحزاب الحاكمة وشخصياتها، ففي فضاء النص القصصي تكون الرمزية واحدة عندما يأتي الطوفان ويذيب كل التماثيل كبيرها وصغيرها في شوارع المدينة، مع اشارة وايماءة ثانية الى مَن يصنع هذه الاصنام من الاحزاب بما يشبه كثرة الصور في قصة "بخاطرك يا لبنان" وهو جزء من المجتمع، إذ في قصة "ما جادت به شمية الطوفان" يفضح السرد هذا الواقع اليومي المرموز له، حين يسعى الى الجبل كل مَن لا يعتقد بالتماثيل لينجو بنفسه واهله مِن الطوفان، بينما يظل يدافع عن التماثيل مَن يعتقدون بالتماثيل منقذةً لهم من الطوفان فيموتون مع التماثيل الذائبة بمياه الطوفان ليكون الطوفان رمزا ايجابيا هنا في كشف زيف المعتقد بالتماثيل أو الاصنام أو التابو لمَن يعتقد بهم تابو مِن الناس، ثم تغرق المدينة وتسقط تذوب التماثيل كما ذاب قبلها الكثير من التماثيل حيث الروي على لسان المرأة العجوز "شيمة" بصوت المتكلم أو الراوي العليم الذي يخبرنا أن عمر "شيمة" تسعون عاماً في هذا الفضاء من النص نرى انها شاهدة على حقب زمنية متباينة من حكم التماثيل في الشوارع، حيث نعلم أن فعل الهجرة واحد في هجران صور الساسة في الشارع اللبناني مع بقاء حب الوطن في شخصية "خليل" من فضاء قصة "بخاطرك يا لبنان"، وهو ذاته فعل هجرة الناس في فضاء قصة "ما جادت به شمية الطوفان" وترك التماثيل تواجه مصير السقوط.
أما فضاء النص في "ورقة " قصة أحمد جمال الدين حميدة من مصر، فأن نقطة تبئير فضاء النص تكون في تقاطع الشوارع عند الاشارة الضوئية حيث الباعة من الاطفال عند سيارات الاثرياء وعلى جانبيها المهمشون والاطفال يحاولون بيع ما لديهم من بضاعة خفيفة مثل الورد والفل و...، لقد كان فضاء النص مفعما بالفارق الطبقي بين طفل هرب من ملجأ للأيتام بسبب سوء المعاملة فيه، وأصحاب السيارات الفاخرة إذ ينتقل الطفل الشخصية الرئيسة بين السيارات محاولا بيع ما عنده لينتهي به المطاف مدهوسا ميتا بإحدى سيارات الاثرياء، وفي قصة مشابهة من حيث تبئير فضاء النص في تقاطع الشوارع عند الاشارة الضوئية في قصة " الخدعة " لنصير السماوي من العراق التي تسلط الضوء على الاستعطاء أو التسول من اصحاب السيارات، التي غدت مهنة يحترفها كبار اللصوص باسم الله والاولياء، ففي القصتين "ورقة" مصر، و"خدعة" من العراق يتحرك فضاء النص بقوة لما يشهده الشارع اليومي في أغلب الدول العربية.
وفي قصة "أرملة دمشق تفوت الحافلة " يكون فضاء النص في نقطة الضوء الصعود الى الحافلة في يوم من أيام دمشق لما بعد 2015 عندما وضعت الحرب أوزارها في الشارع الدمشقي، في غرائبية مُلفتة بين الاحساس بالقلق للشخصية الرئيسة الراوي العليم ذاته من مخلفات الحرب وكثرة المليشيات المتناحرة باسم الله، وبين ما هو ممكن الحدوث وغير الممكن لا يصدق أن تُقطع كفي سيدة سافرة بسبب ارتطامها بسيدة اخرى بدينة مرتدية العباءة الرثة!! إلا أنه على الرغم من الغرائبية فان القصة تنقل بدقة مشاكل نفسية للمواطن السوري المتمسك بوطنه القابع تحت نيران الحرب في دمشق أو غيرها من المدن السورية، ففي هذا الشارع نلحظ تبئير فضاء النص على الانسان وقلقه بين الحياة التي كان يعيشها وما وصل اليه الوطن والمواطن السوري ، لقد كان النص بلغته واستعاراته وفضائه النصي يجسد تلك المشاكل اليومية للناس في سوريا، وكذلك في قصة "اغتيال التوليب" لسهير عبد الله رخامية، التي تناولت وجع الاسرة السورية البسيطة الفقيرة التي تعيش على قوت يومها في فضاء النص وبؤرة اشعاعه في الرصيف عند عتبة طفلة تبيع الصحف وزهور التوليب، أما الشارع في المخيمات الفلسطينية بقصة "حلم مستحيل" فضاء النص يتخلف تماما باختلاف المكان الكلي المخيمات في القصة وكذلك باختلاف المكان الجزئي الشارع على تعريف المكان الكلي والجزئي عن الناقد العراقي ياسين النصير، فالمكان الكلي والجزئي محصور بسياج وجنود مع منع الخروج من المخيم للشخصية الرئيسة الشاب، أكيد سيكون فضاء النص مختلف تماما عن كل شارع في العالم إذ البيت خيمة وتجاورها خيمة أخرى إلا أن الحلم بالأشياء بات مستحيلا للشخصية الرئيسة فلا خروجه من المخيم ممكن ولا زواجه ممكنا من "سلمى" التي احبها وهما مراهقان يعشيان داخل المخيم، ولا إكمال تعليمه ممكنا...، بينما فضاء النص للشارع المنفتح في المدن العربية الذي يحمل تناقضات زمانين في قصة "حراك " لأحمد لحياني من المغرب، حين يعود السياسي الوطني من السجن الى حبيبته فيجدها متزوجة وتأسف هي لذلك فلا تستطيع ادخله بيتها، واعتذرت منه وقت التقته في شارع الحرية بمقهى الدكتاتور!، ففاضت الدموع منها وهي تشد ازره بأغنية من تاريخ نضالهما قبل دخوله السجن، صدحت هي بأغنية الشيخ أمام "شيد قصورك على المزارع.. مِن كدنا وعمل أيدينا"، وافترقا وهو يحمل حقيبته الى بيت أهله الذي بدا غريبا، في هذا الفضاء يجد نفسه غريبا كل الغربة في فضاء النص للشارع الذي تغيرت فيه طباع الناس ونظرتهم للحياة وصار نضاله ذكريات تتحفظ بها حبيبته فقط، أما في فضاء نص قصة "التشظي" للحسين لحفاوي من تونس، حيث شخصية "نزار" المجرم للتابع لأحدى القوى التكفيرية من الاسلام السياسي يفجر نفسه داخل مقهى للمتظاهرين اليسارين في أحد شوارع تونس، مقهى "العم مختار" معقل المتظاهرين من قوى اليسار التونسي ضد النظام وفساده وجشع رجاله.
ـــــــــــــــــ
*قصص قصيرة "ضفاف النيل " الفائزون في مسابقة السكرية للقصة، طبعة دار السكرية، القاهرة، 2018.
1-مدخل الى النقد المكاني، ياسين النصير، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2015، ص: 43.