منذ فترة طويلة وانا افكر في الكتابة عن الشاعر ناظم السماوي وقصيدته الجميلة .. وكلما امسكت بالقلم وخططت سطرا حالت بيني وبين الكتابة ظروف الحياة ومشاغل العمل وصحتي المتدهورة وعندما كثر الغربان والبوم من ادعياء الشعر محترفي كتابة ما لا يعرف عما لا يفعل احسست بدافع يجبرني على الكتابة وشعرت وانا اكتب ان حروفي باقة زهور صغيرة يصفها قارئ صغير على جيد شاعر موهوب عظيم.

قامات شعرية

لا يمكن للشعر ان يخبو وهناك قامات من الشعر ما زالت تمضي وتواصل وتنحت كلماتها في وجدان التاريخ والشاعر الكبير (ناظم السماوي) واحد من هذه القامات اللامعة التي ما زالت تسطع بابداعاتها في سماء الشعر الشعبي الحديث .. فتضيء وجدان الجماهير الذين ما زالوا على ولائهم للكلمة العذبة والمشاعر الصادقة.. اذ انه لا يوجد بين شعرائنا الشعبيين المعاصرين من يجسد في حضوره الانساني وسلوكه اليومي مثلما يفعل (ناظم، اليوم فالشعر فيه يسكنه في كل لحظة ولا يفارقه ابدا ويلون ردود افعاله بشعرية صافية تصل بالانفعال في كثير من الاحيان الى ذروته وتؤجج في كيانه هذه المعاناة الكونية وهو يضع حدوده الفاصلة بين الجمال والقبح الانساني وغير الانساني يحرص على صفاء لغته ونقائها وبعدها عن التلوث السائد والهشاشة الرائجة.

ورد أسود

تعرفت على الشاعر ناظم ايام كانت حاضرا مهرجان الشعر الشعبي القطري الذي اقيم في الديوانية والسماوة اوائل السبعينيات فادركت قيمة البعد الشعري في شخصية الشاعر الشاب انذاك حيث يحيا باحساس المرهفين فيما يدور بالوطن وما ينشده من تغيير ومرت بي السنون تنقلني من مكان الى آخر ولكني كنت اتابع اخباره ونشاطاته ومعاناته والضغط عليه – بلهفة – والتقيته في مكتب (السيد عريان في مجلس ضم مجموعة من الشعراء وكان كل واحد منهم يدلو بدلوه حتى ان الشاعر ناظم القى قصيدة فيها (هل شفت ورد اسود؟) وكان يصر بان لاورد اسود في البلاد والعالم ... وضحك يومها الجميع وظل التساؤل محور الفكري وفي احدى سفرات المستقبل وبعد انتهاء الديكتاتورية زرت بعض البلدان الغربية ووجدت ضالتي ( الورد الاسود ) وتذكرت مجلسنا وشاعرنا وتساؤلاته ، ودار الزمان دورته والتقيته في عدة مناسبات فرأيته يعيش وهو في اتزان عمره حيوية الشباب ويحمل وهو في عالم زهده – بساطة في وضعه وروح الكرماء وغرة الشرفاء

الوطن ... حته ابحلمه يورد احلام

يزور ابيوت شعبه باحلى دشداشة

الوطن نكطة ضمير وعشك حد الموت

الوطن طير السعد ويلمنه باعشاشه

التجديد والتفسير

برز في شعره ما برز من ظواهر تشير الى التفسير والتجديد فيقول لنا في شعره ما يقوله لنا عادة في حديثه حيث يكشف من خلاله عن حقيقته وحقيقة مواقفه ومعتقداته فهو انسان شديد الحياء والرقة يتحول في شعره – بفضل لمسته السحرية – الى كيان عاصف وبركان متفجر وصوت قوي ومدو.

العراق ايظل شمس وغيوم تتلاشه

عراق وميته زلال وماترد عطشان

كمر واجمل كمر والليل ماناشه

احنا سلال حب ومو جنط الغام

ومحبتنه العراق ودمنه شوباشه

ثمن دمعة

لقد كانت مصادر ثقافته التي لاتختلف عن مصادر ثقافة أقرانه من رواد جيلة حيث تمثلت في القرآن الكريم والحديث الشريف وسيرة آل البيت (ع) والمعارف المشهورة بين الناس وماتنشره المجلات الادبية التي كانت تصدر وما حفلت به دواوين الشعراء يضاف الى هذا ما كان يسمعه مما يلقى من على المنابر الشعرية ومايدور بين اصدقائه الشعراء من ابداع شعري الى جانب هذا لم يكن المقلد في شعره وانما الشاعر الذي يعتمد على ذوقه وعلى خلفياته الثقافية التي هي حصيلته ان ناظم هو شاعر الموقف الثابت غير المتذبذب شاعر الفقراء والمتعبين:

كش ملك تاجه اعله راسه

يخاف من تاجه يطير

وكش رئيس المو رئيس

بغير شعبه يستشير

وكش وزير الجان يحلم

يوكف اباب الوزير

 وكش زغير الصار بالقدرة جبير

ان شعر ناظم لاينحدرانحدار السيل في شده انحدار وصخب وانصباب لكنه ينبسط انبساط البحر في عمق وسعه وسكون سطحه، كلما كنت اقرا (ناظم) كنت احس ان هذا الشاعر يتغلغل لاعماق روحي يجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي اوصلني اليها هذا العالم الذي نعيش فيه:

ايام من جاسك برد

دفيتك بعمري جمر

يمكن سنه ويمكن دهر

وانا اكتب عن ناظم اكتشفت انه موجود في ضميري الذي اخاف منه تسربت كلمات له كانت مزروعة في وجداني ذكرني بحقي الذي منحني اياه منذ شبابي في الاعتراف بالخوف والكبت.

اعجاب

هذه القصيدة ليست عادية بل هي اشعار تحسها طالعة الينا من احشاء شاعر اصيل كما نحسها نابعة من المعاناة الحقيقية والصادقة لشاعر تضمر في ثنايا ابداعه انحيازا اصيلا نحو المجتمع من موقع الوفاء والمرافعة والدفاع عن وجوده وعن اوضاعه الاجتماعية وعن تحرره في تعدد صورة وحالاته وفي رفضه للعديد من الارغامات الجانبية التي تكبل حريته وتحد من تحركه.

اراهن والحزن يلبسني قمصان

بس قمصان صبري بروحي تنهاب

وابو – دجلة الخير – ابغربته وياي

ويجي – مظفر بطوله ويجي السياب

عراقك شهرزاد بلون بغداد

اميره من الحسن يعرفهه زرياب

ان صوته الشعري صوت جيله صوت الحق والغضب تكتمل ملامحه وسماته بين دوي الرصاص الملاحق للتظاهرات وركلات الارجل في مطاردات الشوارع والازقة وظلام السجون والمعتقلات التي تلتهم الخارجين على النظام المتسربلين بالكرامة والكبرياء:

مريت اعله بابك والدرابين

عزتني وبجت كل الحياطين

اورجعت بمستحاي ابين البيوت

وتسترت ابعباتك والعرقجين

ارجفت من خجل روحي وشوفة الناس

وادوس الموت واشطب عالقوانين

ومن خلال رحلتي مع ديوان (بس يامطر) كانت تحتويني تيارات صدق وحراره وبكاء وعزم ورغبة في ان اكون قريبا من نفسي ومحنتي ووجودي لان الذي يتحدث هذه المرة ليس سوى صدى كل مناضل غيور على وطنه صوت يفور في اعماق كل واحد منا حتى اننا نشعر أننا قد وجدنا الصدى الذي كنا نتمنى ان يتردد بعيدا حين كنا نتغنى او نبكي او نصرخ في عالم يحاصرنا ويمنعنا ان نسمع اصواتنا حتى لأنفسنا.

عرض مقالات: