سلاماً،

سلاماً وفرحاً بكم أيها الشعراء،

سلاماً وفرحاً بكم، وبمحبي الشعر في العالم.

وعن الشعر، فليكن الكلام بأقصى الوضوح. وضوح تريده أيامنا. فمن بعد الحرب الثانية والحروب المحلية في الشرق الأوسط وغير الأوسط، وبعد سنوات المدارس الفنية وصولاً الى الواقعيات وحماسات أدب التغيير، وصلنا الى ثلاثة تشغل اشعارنا: ذواتنا الممتحَنة بالمعنى والمثقلة بضرورات العيش وواجبنا الاخلاقي لأوطان مهددة ومجتمعات محاصرة بالاحتياجات والرداءة ثم همنا الانساني تجاه العالم.

فلم تعد البقعة التي نعيش عليها، الارض التي ننتمي رسميا لها، هي وطننا حسب. نحن اليوم مواطنو العالم الكبير، مواطنوه الذين يمتلكون الاشارات النارية وحدائق الحُلم. الانسانية اليوم امتنا الكبرى ووطنا بعض من العالم الذي يريدون منعنا من الانتماء لحضارته ولشعره وفنونه ومستوى عيشه. لكننا نصر على الانتماء إليه، وشعرنا اليوم وفنوننا تحمل روح الانسانية النظيفة التي يحملها شعراء وفنانو العالم.

بعد التمشي المجيد على سطح القمر وبعد رفرفة نبتة أرضية على الكوكب الاحمر وبعد الكشوفات العظيمة، لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيكتبه الشعراء غداً. الشعراء وحدهم المكتشفون والشعراء وحدهم، بأشعتهم الكونية وبالروح النقية الشَغوف، سيرسمون أقانيم الكتابة الجديدة. انتهت الوصايا وبدأت المغامرة والاكتشاف . بدأت القراءة الجديدة والكتابة الجديدة والوطنية النقية الجديدة بعيداً عن الهمجية ومخلفات العصور. هو الاحترام الكبير للانسان في الوطن وفي العالم.

الشعر هو الذي بدأ الاحترام لا حملة البنادق ولا المحشوون باللغو والشراسات وجنون الكراهة. الشعر العراقي هو المتمرد الأول على الموت. واليوم هو المتمرد الأول على ابعادنا عن العالم وقتلنا في المكان.

من هنا التقى الشعر بالنضال من أجل حرية الشعب وتقدمه. انتهى زمن الفصل بين الاثنين. الحرية واحدة وارادة التقدم في الشعر و في الحياة واحدة وحداثة الشعر تؤم لحداثة الأنظمة وحداثة الحياة كلها. الفصل ليس في صالح أحد. ثم هو ليس صحيحاً ! ما الجدوى من أن نتقدم ويظل شعبنا. لمن الخطاب ؟

لم يعد الماضي وحده متّكأنا. الماضي وآمال المستقبل معاً لإيقاد شعلة الحاضر. والقصيدة الجديدة تتماهى بها التخوم الثلاثة لحظة الكتابة. والقصيدة الجديدة هي التي تحتوي بدفئها الانسانَ موضوعاً، الانسانَ محتفى به والانسانَ متشوّقاً يريد والانسان يتحرر والانسان عاشقَ حياةٍ أبدي ومغيِّر مسار.

جوهر هذا الكلام ليس جديداً، فقد بدأ الشعر في العراق كونياً. بدأ رائي انسانية ومصير. بدأ عن الناس في العالم السفلي وعن الانسان مهدداً بالموت. وأولى القصائد كانت بحب العالم وأبديته وحب الحياة وبقائها وأمام الموت استسلم الجميع، الشعر هو الوحيد الذي راح يبحث عن حل!

أنا أعلم أن الملايين في بلدي وفي العالم، ما يزالون في عالمهم السفلي. لكني أعلم ايضا ان للملايين في بلدي وفي العالم آمالهم العظيمة في حياة أفضل وأشرف ويريدون الحرية تكتمل. الحرية شرط الابداع الأول وشرط التقدم الأول وأن الجيوش والبربرية وقوانين الردع أو القتل تؤسس مجازا لكنها لا تؤسس حضارة.

يوما قالوا:  "سيأتي يوم يعمل فيه الانسان ثلاث أو أربع ساعات وباقي وقته لينعم بالحياة وبالمتع الجمالية ..." كم مرَّ على هذا القول؟ عقود وهم يزيدون الانسان قنانةً وسَحْقاً. ونحن هنا، من أجل الخبزة والسلامة، من اجل الخبزة والسلامة لا غير، تتبادل قنانتنا الجهات. فنحن بين هذه وتلك نعيش.

في عالم مثل هذا تقبع الفنون في زاوية وليس الا الدماء والشكوى. دعوني اسأل في يوم الشعر: كم هي حصة كادحي العالم وحصتنا من مكاسب بعد الحرب والتطور الكبير؟ ليس غير العذابات المرة وأغاني الواقع، أغانينا، التي تشبه عويلاً مخنوقاً. في حياة مثل هذه، صعبةً تكون حياة الشعر. وأن جاء شعر فلا يحتفي بالحياة، هو لا يرى جمالها!

لهذا أقول تقدم الشعب معاً وتقدم القصيدة. نحن أبداً لا نريد الانسان يهرب من زمنه ومن مسؤولياته ومن التاريخ. نريد هذه كلها فناً! نريدها حقول عمل ونريدها متنزهات لأرواحنا! أيضاً، لا نريد المبدعين، أولئك الذين يقتدحون النار في الخرائب الباردة، لا نريدهم ان يألفوا التكرار والتشابه وركاكة الحياة في فنهم، فيأتلفوا من بعد مع الاعتيادي. نريدهم يظلون وقّادين كباراً وعشاقاً كباراً وكاسحي انقاض وفاتحي طريق الى المستقبل، مستقبل الشعب معاً ومستقبل القصيدة!

شعر اليوم هو الذي انتبه لخطورة العوز على المعنى وروح الفن. وشعرنا الحديث هو الذي انتبه الى صناعة النسخ البشرية المتشابهة وضياع التماعة التفرّد والامتياز. والشعر أيضا هو الذي يدعو للفرح بالوجود لا بالوقوف في الصفوف الطويلة حيث الخبز لا تفارقه المهانة. والشعر أخيراً، ليس أخيراً، الشعر أولاً، هو الرافض الكبير والشجاع للعصر الرث الذي نعيش فيه ويستدعي ما وراءه ليصل!

فيا أيها الشعر كم مهماتك صعبة، لكن كم عظيم وفي غاية الجمال أنتَ! أيها الشعر أبقَ في الحياة لتظل حياةً! وأبقَ مثلما نريدك متقناً و قوياً و محتفظاً بشرف المعنى، دلالات وجمال رؤى. احتمل أيها الشعر متاعبك في طريق التقدم، تقدم الفنون وتقدم الحياة كلها. لا عودة للماضي. لا عودة الى وراء لا في القوانين ولا في الانظمة ولا في الفنون لا عودة أبداً. ومن لا يُرِد ان يفهم ، ستُفهمه الحياة علناً!

اخوتي، أيها الشعراء في بلدي، وأن كانت حياتكم صعبةً وتعيشون بالرغم منها، يكفيكم فخراً انكم تكتبون شعراً. وأن الشعر في العراق ألتقى بالشعر في العالم. وهذا يعني العمل على ان تلتقي حياتنا بالحياة في العالم وألاّ يظل شعبنا صفوفاً خلفيةً تنتظر!

لكم المجد أيها الشعراء

لكم المجد يا شعراء بلدي،

ولتكن لتجاربكم قوة السطوع والاكتشاف،

ويا أفق الحرية اتسع!

——-

*كتبها وألقاها الشاعر ياسين طه حافظ، في الفعالية الشعرية الموسيقية التي نظّمها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب بهذه المناسبة.. الحادي والعشرين من آذار ٢٠١٩، بغداد - قاعة الرباط.