انبثقت جماعة المرفأ الشعري في بغداد حال انبثاق ثورة 14 تموز 1958 حينما عاد الشاعر الراحل رشدي العامل من القاهرة بعد سنين من الغربة الاجبارية بعد ان كان له ديوانان شعريان ينددان بالحكم الملكي المباد. اولهما "همسات عشتروت" الصادر عام 1951 وثانيهما "اغان بلا دموع" الصادر عام 1956، وسرعان ما انضم رشدي في عودته الميمونة الى كلية الآداب كأي صاحب مشروع وطني في الشعر والسياسة والاعلام.

وحتى نوفي حكاية (المرفأ) النضالية حقها باسم رشدي العامل، لا بد من الاعتراف بأن هذا الشاعر كان يمور في ذلك الوقت بنشاط حيوي خلاق لا في انتمائه الماركسي المعلن ولا في قيادته المهنية لاتحاد الطلبة العام في كلية الآداب ذات التأسيس الحديث وحسب، بل لاعتقاده مع زملائه في قسم اللغة العربية امثال نزار عباس وطراد الكبيسي وسامي مهدي وهاشم الطعان وعلي عباس علوان وحاتم الضامن وسليم عبد الامير وعبد المنعم المخزومي وآمال الزهاوي وخالد علي مصطفى، بأن هذه الكلية هي الحاضنة الاساسية لحركة الحداثة الستينية، بينما كلية التربية/ دار المعلمين العالية هي الحاضنة الاساسية لحركة الحداثة الخمسينية التي انجبت السياب والملائكة والبياتي.

وهكذا انغمر رشدي في تأسيس جماعة المرفأ الشعري في بغداد كما يقول صديقنا الاستاذ الناقد فاضل ثامر في كتابه المهم "رهانات شعراء الحداثة" / 2019 وهو الذي زامله عن قرب في تلك المرحلة التاريخية، حينما اتخذ من احدى زوايا اتحاد الادباء ملتقى لها. وقد ضمت الجماعة في حينها الشعراء: رشدي العامل، محمد سعيد الصكار، سلمان الجبوري، وحساني علي الكردي. ولم يكن بعيدا عن هذه الجماعة الشاعر سعدي يوسف والشاعر الناقد طراد الكبيسي.

واضيف شخصيا الاسماء التالية: مظفر النواب وناظم توفيق وزاهد محمد وشمران الياسري وخالد القشطيني الذين كانوا يترددون على جماعة هذا المرفأ من باب التواصل والزمالة والعشرة الطيبة كما رواها لي رشدي في سبعينيات القرن الماضي حينما جمعنا العمل الصحفي المشترك في احد المنابر الاعلامية المعروفة.

كان الهم الانساني لهذه الجماعة كما يعتقد الاستاذ فاضل ثامر محاولة التميز عن تجربة الجيل الخمسيني، وربما تمثل هذه الجماعة اول محاولة مبكرة للخروج من ابوة جيل الخمسينيات لخلق انموذج شعري مغاير وحداثة من طراز جديد. لكن الهم السياسي والتداعيات السياسية التي رافقت ثورة الرابع عشر من تموز لم تتح لها الفرصة لانجاز مشروعها التحديثي الجديد، فتفرق شعراؤها ضمن مسارات شخصية عرفت عنهم لاحقا. وكانت تجربة رشدي العامل من التجارب التي اغتنت بالمنظورين الحداثي والرومانسي معا، مع انشغال واضح بالهم الاجتماعي، لكن النبرة الذاتية الحسية ظلت هي المهيمنة في تجربته الشعرية مع لون من التلقائية والعفوية، وتجنب الصنعة والتخطيط المسبق للقصيدة، واحيانا الانثيال مع الايقاع الداخلي لموسيقى القصيدة وصورها وتحولاتها بانسيابية سلسة.

وفي تقييم خاص للشاعر رشدي العامل يرى فاضل ثامر ايضا ان هذا الشاعر لم يفارق الرؤيا الرومانسية في تجربته الشعرية الخمسينية وخاصة في ديوانه الاول والثاني، الا ان رومانسية رشدي العامل التي اعلن اكثر من مرة اعتزازه بها وعدم مغادرتها، ليست تلك الرؤى التي عبرت عنها الرومانسية العربية ممثلة بمدرسة (ابولو) المصرية ومدرسة (المهجر) اللبنانية وتجربة ابي القاسم الشابي الشعرية، وليست هي الرومانسية الانكليزية التي اثرت على التجارب الشعرية العربية طيلة النصف الاول من القرن العشرين، بل هي رومانسية/ ثورية، وبشكل اكثر دقة رومانسية تستلهم روح الحداثة الشعرية الخمسينية التي اطلقتها تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمود البريكان وغيرهم.

جماعة المرفأ في الميزان

لعل المتأمل في الشعر العراقي والعربي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، يرى كيف انطلقت كوكبة شعراء المرفأ العراقي تعزف انغامها الجديدة وتقدم قصيدتها المغايرة للقصيدة في زمانها، لغة وحساسية ووجدانا وتصويرا وموسيقى وكيف تأثر هؤلاء الشعراء بقراءاتهم في الشعر الاجنبي، وبخاصة ما ترجم من قصائد عن الانكليزية والفرنسية، الى اللغة العربية، وكيف دبت روح جديدة في الشعر العراقي، سادت وذاعت مع اكتمال القرن العشرين.

ومع ان جيل المرفأ يتهم احيانا بأنه جيل ضائع بين ثورة الرواد الشعرية في اواخر الاربعينيات وجموح شعراء الستينيات في منتصف العقد الستيني المنصرم بأمواجه الصاخبة وارواحه الحية، ويمكن عد كاظم السماوي ورشيد ياسين وألفريد سمعان وكاظم جواد وصادق الصائغ وموسى النقدي من صميم هذا المرفأ ومن روح جيل الضياع المضيع في الذاكرة الشعرية والنقدية في العراق، حتى وان وطد مكانته الثورية الجديدة – وطنيا وشعريا – المتجاوزة لقيم الرواد او الشعراء الاحيائيين في العراق كمحمد سعيد الحبوبي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وعلي الشرقي وعبد المحسن الكاظمي وغيرهم.

وعلى الرغم من وجود عناصر ولفتات وجدانية في شعر هؤلاء الاحيائيين العراقيين واضرابهم لم يخل الشعر العربي على مدار تاريخه منها، منذ كان شعر العذريين في العصرين الاسلامي والاموي يحمل عناصر هذا الاتجاه الذي اطلق عليه الناقد المصري المعروف الدكتور عبد القادر القط "الاتجاه الوجداني" بديلا عن "الاتجاه الرومانسي" الذي عرفت به جماعة "ابولو" المصرية وجماعة "المهجر" اللبنانية، الا ان جماعة المرفأ الشعري في العراق كانت لها الريادية الوطنية فيه والاضافة الحقيقية اليه.

ولا نكثر على شعراء المرفأ العراقي ان يكونوا وجدانيين او رومانسيين ثوريين او حالمين ديمقراطيين – سمهم ما شئت – على قدر من وجود هذه اللفتات الوجدانية التي لم يخل منها الشعر العربي على مدى تاريخ ديوانه الطويل.

قصارى القول، ان هذه الجدة الثورية، وهذا الايقاع الجديد، وهذه اللغة الشعرية المغايرة، وهذا الافتتان بالخيال المحلق والقدرة على التجسيد لم تغب عن بصر شعراء جماعة المرفأ، الذين انطلقت قصائدهم التجديدية منذ ختام الخمسينيات واوائل ستينيات القرن العشرين، مندرجة في تيار شعري سمي باسم الشعر الحر او الشعر الجديد او شعر التفعيلة.  

رشدي في صورة قلمية

هو رشدي احمد جواد العامل (1934- 1990) ولد في مدينة (عنه) بمحافظة الانبار، وتخرج من كلية الآداب – جامعة بغداد 1962. اصدر اضافة الى الديوانين المذكورين المجموعات الشعرية التالية: (عيون بغداد والمطر 1961، للكلمات ابواب واشرعة 1971، انتم اولاً 1975، هجرة الالوان 1977، حديقة علي 1986، الطريق الحجري 1991).

عمل في الصحافة منذ اواسط الخمسينيات ومنها (المستقبل/ صوت الاحرار، اتحاد الشعب، الفكر الجديد، طريق الشعب).

كان صديقا حميما لجميع الادباء والمثقفين العراقيين، مرحا محبوبا، ورغم اهتماماته والمتاعب السياسية التي واجهها فقد كان يرى الحياة فرصة تستحق ان تعاش بآلامها ولذاتها. كتب عنه وعن شعره طراد الكبيسي وفاضل ثامر ويوسف نمر ذياب وخالد علي وماجد السامرائي وحاتم الصكر وسامي مهدي وفوزي كريم الذي قال عنه: "ان وسيلة الشاعر رشدي انما تحتكم للصورة، وعبر تراكم الصور يستخلص المناخ الذي يريد، وتلك ميزة القصيدة الغنائية عنده".

يصفه فاضل ثامر بشاعر الامل والحب والحياة، بينما يرى سامي مهدي في رشدي العامل انه كان انساناً عذباً متفتحاً، ميالا للمرح والمزاح، لا يؤذي احداً، ولا يفرط في علاقته الودية مع زملائه الآخرين.

شخصياً يبدو لي رشدي العامل شاعراً رومانسياً مهموماً بانقسام الواقع الأليم بين الحقيقة والزيف، بين الوجه والقناع، وبين القيمة والممارسة. والرومانسية التي اعنيها ليست مدينة للتعريفات القديمة المتعددة التي اتسمت بكونها احادية البعد كالقول بالخيال العاطفي الجامح او النكوص الى الطبيعة او الولع بالحرية والفردية والغرابة، وليست هي ايضا الجمع المفهومي لهذه التعريفات جميعاً في وحدة واحدة. ولكني اعني بالرومانسية هنا نزوعاً غلاباً الى ابراز التقابل الفاجع بين الذات والواقع، وبين الواقع والحلم، وبين الحلم والزمن، وبين الزمن والحياة وبين الحياة ومجموع الافكار والقيم، على نحو يحكم سياق المعنى الكلي لخطاب الذات الشعرية ويوجهه وجهة متسامية وصافية تحيل الى بداهة المثال.

هذه القيمة المهيمنة في ابراز التقابل الفاجع والقياس اليه، وتوجيهه بالرجوع الى مثال اصلي، هي ما يميز – في الحقيقة – جوهر الروح الرومانسي لدى رشدي العامل.

عرض مقالات: