تمتلك الشاعرة الايرانية ساناز داود زادة فر القدرة على تحويل المفردة الى منصة للتأويلات التي لا تبعد عن قصديتها ولا تخالف ما يمكن ان يرد من قصديات في ذهن المتلقّي.. فهذه الشاعرة مسكونةٌ بصناعة المفردة التي تحمل ما تريد من معنى ودلالة وهدف مكثّف تريد إيصاله الى الملتقّي معبّرًا عن مكنوناتها الخاصة.. لذا فهي تلجأ الى بثّ النص الشعري عبر ضربةٍ واحدة كأنها ترسم لوحةً جسدية وتضع المفردات حيث تشاء، مرّة بطريقة التأويل الكامل ومرّة بطريقة السرد ومرّة بنحت المفردة على البياض ومرّة تنثّ رائحةٍ زكية، لكي تخرج من عنق النصّ، فتلهب المخيلة اشتعالات كاملة.. فهي قادرة على الغور الى أعماق لا يصلها إلّا من شابهها في الكتابة النثرية الجديدة التي تعطي فسحةً من التغوّل المفرداتي، لكي ينيب عن الحالة السيكولوجية التي يمنحها المجتمع والمحيط، والحالة التي يراد منها الخروج من عنق أو بئر المجتمع أو الانعتاق من حالة التخلخل التي تعيشها مجتمعاتنا الشرقية المتشابهة في تقاسم التراجع الحضاري وان اختلفت العادات والتقاليد البيئية التي انتجها الواقع السياسي والاقتصادي وحتى الديني عبر قرون.
إن الشاعرة ربما هي ليست متفرّدة بين الشاعرات الايرانيات، ولكن على المستوى التدويني ربما تكون واحدة من اللواتي يردن الخروج من تقليدية النصّ الحديث الى النصّ الحداثوي الذي يعبّر عن مكنونٍ ذاتي، ليكون جمعا، ويعبّر عن مرحلة محدّدة ليكون عصرًا، ويعبّر عن محمولٍ بيئي رؤيوي خاص ليكون مجتمعا.. فهي وإن لم ترد أن تكون نائبة في قولها عن الأخريات، لكنها تريد أن تكون متفرّدة في قدرتها على التدوين.. فتأخذ من نصوص مجموعتها "أمشي على حروف ميّتة" ما يمكنها أن تنتهج سبيلا وسلوكا ومسلكا وإعانة على تدريب الحرف، لكي يعطي دليل العنوان الرئيس الذي حوّلته الى مدخل مدينةٍ مزيّنة بعلامات التنبه الى ميراثها.. فهي منذ العنوان تريد القول إن كلّ ما حولها "ميّت" فإن كانت الحروف ميّتة لا معنى لما هو أدنى من التواصل ليكون حيًا.. رغم إن ما يشي به العنوان قد تعدّدت التأويلات والقصديات فيها، لكنه أي الحروف معادل موضوعي للحياة برمّتها.. لذا فهي تؤكّد في مقدّمة مجموعتها ما يشي بدلالة المشي على الحروف وما تعنيه محاولتها لكي يبقي الشعر علامة من علامات الحياة، وهو الطريق الأوصل لما هو نابت في مأساة الحياة.. هي تربطه بالماضي من خلال الجدّ الذي رحل.. الجدّ الذي هو التاريخ أو المجتمع الماضوي واستنكارها المجتمع الحالي، وربما هو الجدّ الذي علّمها الشعر وأعانها لكي تكون .."رحل جدي ، وبقي لطفه فيه، لون اللطف اخضر، وأن تكون الاخضر فهذا جريمة لا تغتفر، فالشعر يبقى اخضر ايضا ، حتى بعد تنفيذ الجريمة فيه" وهو مقطع أو مقدمة أو جزء أو نصّ خارج سرب المجموعة أو محمول لدليل قادم، أو لقطة سيميائية عامة سيتم تفكيكها لاحقا.. فهو إعلان كامل ومدفوع الاجتهاد من قبل الشاعرة لكي تؤثّث وتؤسّس معتركها الشعري.. وهي لا تريد قتل الشعر لأنها تمشي على حروفٍ ميتة، بل تقول إنه سيبقى أخضر مهما فعلنا او قتلناه.
أن بنية الكتابة في هذه المجموعة التي وصل عدد نصوصها الى 71 نصّا قصيرًا مثل ضربات فرشاة يمكن أن تؤلّف أكثر من لوحة لو تمّ جمعها.. فهذه النصوص بلا عناوين بل هي مرقّمة لتقول إن هذه الأرقام هي أجزاء النصّ الكلّي، وتقول إن هذه الأجزاء هي التي تشّكل العلامة الفارقة للقدرة على البناء والشكل.. وتقول أنها تشكّل الهدف الرئيس لمحاولة جعل المتلقّي مراقبا لها متابعا لضربات الأجزاء.. وتقول أنها تشكّل وحدة عضوية متعدّدة المسالك لما يمكن ان يجتهد به المتلقّي.. لذا فهي تنتهج أسلوب السرد الشعري لطرح فكرةٍ تؤخذ من عدّة جوانب مفتوحة الأبواب للدخول الى التأويل.. منها ما هو نفسي ومنها ما هو شعري ومنها ما هو تمرّدي على ما حولها.. ومنها إنها لا تريد أن تصنع متنًا شعريًا طويلًا يجعل متنها الشعري تائها في تفاصيل اللغة الشعرية بل لكي تطرق باب التأويل من خلال القدرة على استعمال الأسماء والأفعال في مكانٍ مشهود داخل المتن الشعري، وبالتالي صناعة نصّ شعري.. ففي بعض الأحيان تكون الفكرة بسيطة كما في النصّ الأول لكتها تحمل معنى الدخول الى المدينة الشعرية التي تعدّدت شوارعها.. إلّا أن العنوان هو مدينة الشاعرة الذاتية وسؤالها الذاتي وجوابها القصدي ومآلها التأويلي وهدفها الفلسفي "حين نلتقي، تكون بيننا مسافة دخان عدة سكائر، وحين لا نلتقي، كوب من الشاي الساخن الى جانبه سكر، هذه التجربة دائما". ولو لاحظنا ان أغلب استهلالات هذه الأجزاء أو المقاطع تبدأ بصفةٍ أو أداة.. مثل حين وهي دلالة الدهور أو الوقت يصلح لجميع الأزمان.. أو تبدا باسم "إذا" وهو اسم مستقبلي يضاف له ما تريده الشاعرة من جمل شعرية تدل على غائيتها الشعرية.. أو تبدأ باسم كجملة تبدا بماذا وهي إخبار لتعطي غائية الجملة الشعرية على العكس من النصّ الذي تبدأ به بجملةٍ شعرية كونها تريد منه أن تبرهن على قدرتها السردية في إنتاج النصّ الشعري. فضلا عن أنها تبدأ بظرفٍ مركّب أو اسم مصدر.
إن بنية الكتابة في هذه النصوص تعبّر عن إمكانية جعل النصّ القصير عبارة عن مدينةٍ كاملة مرتبطة مع نصوصٍ أخرى لتشكّل لوحتها العامة وهو ما فعلته الشاعرة الإيرانية.
"ولدت وكنت أبكي وعشت وأنا اصرخ كثيرا، اريد أن ارحل مع ابتسامة، تشبه الموناليزا"، هذا النصّ أو الجزء السادس يوضّح ما بداخل الشاعرة من ألم ويأس وتمرّد لكي تمشي وتحيي ما مات من الأمل.. هو ذات الأمل في الجزء السابع ايضا في وضع مقارنة أو حالة من الحلم للوصول الى شخصيةٍ ما عالمية تحبها الشاعرة "عندما اشم رائجة الحب، لا تسطيع مروحة أي مصنع، أن تكون منافسة لي، مزقوني كبتلات، وارسلوني الى باريس وادعوني جولييت"، سأكون العطر الاكثر مبيعا"، إنها تنحت نصّها عبر الخروج من العمق المحبوس والمختنق الى الخارج الملتهب والمحتقن والمحتشد بالآلام، فلا يكون لها مناص غير التأمّل والحلم والرجاء لعلها تحيي ما مات من الحروف، الحلم، الأمل.