أكثر ما أكرهه في طفولتي، هو حلول ظهيرة الصيف، ولجوء أسرتي الى القيلولة، وبقائي وحيداً بين أربعة جدران. كنت دائما أنبطح على الأرض وأبدأ برسم بورتريهات لأبي الذي كان يرفض خروجي من البيت ويغط في نوم عميق، وكلما استيقظ ووجدني أرسمه و"أشوِّه" صورته! يبدى امتعاضه، ويردد تساؤله المكرر:" غريب أمرك يا ولد"!
حقيقة، كنت أحسب دقائق تلك الظهيرات "لألقف" الخمسة فلوس وأهرع صوب العجوز بائعة الباقلاء أم متاني.
كنا نتحلق نحن الصغار حول القدر، نتناول طاسات الباقلاء المرشوشة بـ "الشْنان والخَل"، ونحرص على طلب "الزواده" وماء الباقلاء الساخن، ثم نبدأ بممارسة ألعابنا الجميلة حتى حلول الغروب.
ذات يوم حملت "الخمسة فلوس" وعدوت باتجاه أم متاني فلم أجدها. اندهشت وعدت الى البيت وسألت أمي فأجابتني ببرود: اذن ذهبت لزيارة متاني.
ومن هو متاني؟ حملت جواب أمي وذهبت الى أبي فقال: تذهب الى "نكرة سلمان" لزيارة ابنها الشيوعي "المسجون"!
ازدادت حيرتي وذهبت الى شقيقي الأكبر فأجاب: متاني شاب مثقف ومناضل ويحمل أخلاق عالية، انتسب الى الحزب الشيوعي العراقي، وهذا حزب معارض وتحاربه الحكومة وتمنعه من..."
الأخطر من كل هذا هو ما رددته في تلك اللحظة وأذهل أبي وأمي وشقيقي، قلت:" افتهمت، يعني متاني شيوعي ضد البعثية والحرس القومي اللي يخطفون البنات ويرتكبون الجرائم"!
وضع شقيقي كفه على فمي وقال:" بابا انت ازغير، اترك هذه الحچي ولسوينَّه بلوى"
بعد عودة الجدة شعرت بفرح غامر ورحت أحاصرها بأسئلتي المتشابكة عن متاني ورفاقه ونقرة السلمان، وأطالبها بنقل سلامي الى عمو متاني الذي أوقد في مخيلتي شعلة السياسة من وقت مبكر، وكانت كلما تعود من رحلتها المضنية تشمني وتقبلني وتردد:"هاي بوسه وشمه من متاني حملني ذمة".
في عصر يوم لا يشبه تلك الأيام، تسلل الى حينا رجل يرتدي دشداشة صفراء ويسير ببطء. لمحنا وابتسم فتوقفنا عن اللعب ورحنا نتابعه، لكن جارنا العجوز "كعيد" خرج عن صمته، وهتف بأعلى صوته:" بويه اهلاه....، خايبين هوووي، متناي طلع من السجن".
تناسل الرجال والنساء، الشباب والشابات، العجائز والأطفال، ليتحلقوا حول المناضلة والمكافحة أم متاني وهي تحتضن ولدها البطل وتنغمر معه في أشد اللحظات انفعالا وبكاء، ثم نثرت على رأسه "نذرها المضموم":" ربع دينار خرده خمسات"! فتنافسنا بلهفة على تلك القطع المعدنية التي كانت تجمعها الجدة "الرفيقة" من بيع الباقلاء، لتسافر بها الى صحراء السماوة، وتواجه ولدها الشيوعي، طوال فترة اعتقاله في نقرة السلمان.
ثالث أيام الأسبوع.. الرفيقة أم متاني / عبد الكريم العبيدي
- التفاصيل
- oscar
- ادب وفن
- 1736