في أواخر تسعينيات القرن الماضي حصلت على الجزأين الاثيرين لمذكرات شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري بنسختيهما المستنسختين من الازقة السرية في شارع المتنبي، ووجدت نفسي ازاء عرق الذهب المطمور في ثقافة القرن العشرين، وهو قرن لا يملكه أي من القرون الاخرى، خاصة في العراق، من الدولة العثمانية الى السقوط فالاحتلال البريطاني، ثم ثورة العشرين فإقامة مملكة أحد ابطالها نوري السعيد، وعبقرية هذا الرجل في تأنيب الخصوم وخلق العداوات، ثم انقلاب بكر صدقي فثورة رشيد عالي، الى سقوط النظام الملكي وقيام ثورة 1958 وما تلاها من انقلابات وعواصف وتبدلات بدأت بالحروب ولم تنته حتى بعد الحصار الدولي الظالم على الشعب العراقي.
وكان الجواهري يعيش هذه الاحداث وقريبا منها بطريقة او بأخرى، وبعض الاحيان مشاركا فيها او معارضا لها، وباعتباره الناطق الرسمي وقد انتدب نفسه لهذه المهمة لشعب مرت عليه تلك الاحداث، لا بد ان يكون انسانا استثنائيا وأقرب الى الاسطورة.
كانت مذكرات الجواهري بالنسبة لي وللآخرين فرصة هائلة للتعرف على ارهاصات الثقافة العراقية في مطلع القرن العشرين وما تبع من سنوات في تأسيس الدولة العراقية، حينما كان الجواهري في عمر السابعة عشر عاما ينشد في الوفود، وحين يكون أحد شعراء ثورة العشرين، ثم ليكون أقرب الناس الى الملك فيصل الاول، وبعد ذلك يعبر السنين والعقود وفي كل منها معارك لا تهدأ ولا تتوقف، والجواهري في طليعة تلك الصفوف ينشد ويحرض ثم يسجل، ومن خلاله يمكن ان نقرأ تاريخ العراق الحديث.
وفي قراءتنا هذه المذكرات يصعب ان نجد شاعراً عربيا انخرط في قضايا عصره كالجواهري فبالإضافة الى كونه شاعراً ينزع الى التنوير والسؤدد الوطني ولا يقارن بأي من معاصريه، فقد كان نائبا لبعض الوقت، وصحفيا لوقت اطول، وكان مواليا لبعض المواقف ولبعض الاشخاص كل الصفة التي ميزته انه معارض أبدى، حتى الاحزاب السياسية لم تستطع ان تروضه او تستوعبه.

بحثاً عن سيرة

اظن من الضروري منذ البدء ايجاز السياحة الطويلة لمسيرة الجواهري في منعطفات متعددة امام القارئ الكريم بالشكل التالي:
* الولادة والنشأة في النجف سنة 1898 او 1899 ومحاولة التمرد والثورة والتطلع للتجديد والتغيير في مجتمع ديني متزمت يرفض التغيرات السياسية والاجتماعية في صميم هيكلته الديموغرافية، حتى وان كان نزاعا وتمردا ضد العثمانيين ثم الانكليز في احتلال البلدة.
* الدراسة في الحوزة العلمية ضمن مناهجها التمهيدية الاولى المعروفة ب، "المقدمات" التي تتضمن دراسة الفقه والعلوم الدينية واللغة والعروض.
* الشجاعة المنقطعة النظير في ذم الحكام والبرلمانيين الرجعيين والاستعمار الانكليزي في اي محفل او منبر، غير هياب في إنزال حممه الشعرية على رؤوسهم، وهو يدرك بعدها انه معتقل او هارب من وجه السلطات ليومين او ثلاثة، ولكنه سرعان ما يسلم نفسه الى هذه السلطات كأنه يدرك ان لعبة القط والفار عبثية وغير مجدية، ولا تليق باسمه الكبير امام جموع الشعب.
* صفة التقدمية المعلنة في شعر الجواهري، حينما ناصر الثوار والشغيلة والجياع وفقراء الشعب ودعمه حرية المرأة والمساواة الاجتماعية كأي شاعر راديكالي محتدم، في وقت ارتضى اقرانه ومن تبعهم بالوسطية والاعتدال من خلال جنوحهم الى السلم تساوقاً مع وظائفهم وخوفا على مراكزهم الاجتماعية.
* ميل الجواهري الى العدالة الاجتماعية وقربه من اليسار العراقي وعلاقته الحميمة بأقطاب التيارات الديمقراطية والليبرالية في العراق، امثال جعفر ابو التمن زعيم الحزب الوطني وعزيز شريف رئيس حزب الشعب وعبد الفتاح ابراهيم قائد حزب الاتحاد الوطني اضافة الى صلاته المستمرة بأحزاب وطنية وقومية كالحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي وحزب الاستقلال برئاسة محمد مهدي كبة وحزب الاحرار بقيادة رديفه في الشعر وصديقه النجفي الاستاذ سعد صالح. ألم يقل الرفيق فهد في احدى رسائله من سجن الكوت للرفاق جميعا: وثقوا علاقتكم بالشاعر الجواهري على قدر ما تستطيعون.
* وتأكيداً على يسارية الجواهري المعلنة او راديكاليته المشهورة حول الحلول الجذرية في السياسة العراقية، فقد وثق احد الباحثين العراقيين اليساريين موقف هذا الشاعر بصورة لا يدانيها الشك – وربما تدعمها المذكرات ذاتها – بانه من رافق عبد الفتح ابراهيم في تأسيس حزب الاتحاد الوطني عام 1946 ومنظمة انصار السلام في بداية الخمسينيات والحزب الجمهوري عام 1960، وحركة الدفاع عن الشعب العراقي بعد انقلاب 8 شباط، اي انه كان اقرب الى الوسط اليساري، وكانت كلمته كالسيف، وموقفه يلهب الجماهير، وهو ما عبر عنه فهد زعيم الشيوعيين العراقيين بالقول: هاتوا انتفاضة يغرّد لها الجواهري.
* ظل شعر الجواهري في صعود منذ ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي، بينما كان ينحو شعر الآخرين الى الانحسار كجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وعلي الشرقي "ابن عمة الجواهري" الذي آثر الكف عن الشعر لأسباب سياسية وعبد المحسن الكاظمي "وكان منفيا قضى معظم سنواته الاخيرة في القاهرة حتى توفى في 1935" الى جانب احمد الصافي النجفي ومحمد رضا الشبيبي ومحمد صالح بحر العلوم. بل ان شعر الجواهري في الثلاثينات نافس قطبي الشعر الاحيائيين أحمد شوقي وحافظ ابراهيم، وبزّ مدرسة "الديوان الشعرية" التي مثلها العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، ثم مدرستي "المهجر" اللبنانية الرومانسية و"ابولو" المصرية ذات المنحى الوجداني الرمزي. وشيئا فشيئا وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح الجواهري من أبرز الاصوات في الشعر العراقي، وواحدا من أشهرها في العالم العربي كله، ولا يدانيه في تقديري سوى بدوي الجبل في سوريا وسعيد عقل في لبنان ولكنه طغى عليهما فيما بعد، لأسباب سياسية واعلامية شتى.
* اخيرا كشفت علاقة الجواهري بالزعيم عبد الكريم قاسم نوعا من التداخل والافتراق، فمن الصداقة العائلية الى العداوة حد السجن، فالاثنان امتلكا شعبية الرمز الوطني، أي الرمز السياسي والرمز الثقافي. وكان في الامكان ان يتفقا على تقاسم المواقع، سلطة الجواهري الروحية مع سلطة قاسم السياسية. لكن سلطة الجواهري بدأت تستند الى مؤسسات "نقيبا للصحفيين، رئيسا لاتحاد الادباء، رئيسا لتحرير جريدة يومية" هذا اضافة الى سلطته كشاعر شعب.. ومن هنا بدأت قطيعة الجواهري مع قاسم وبداية منفاه الطويل.

انشطار ام اغتراب؟

ان عالم الجواهري الكبير الشاسع هو ملحمة حقيقية، ملحمة حياة الشاعر وملحمة العصر الذي عاش فيه، الملحمة التي تتجسد وتتمثل في كل شعره، من اول قصيدة كتبها حتى القصيدة الاخيرة، وهذه المذكرات التي ما زلنا نقرأها بمتعة، ميزته عن الكثير من المبدعين الذين عاصروه، فهو من القلائل الذين دونوا مذكراتهم ونشروها اثناء حياته. وهذه المذكرات تلقي اضواء قوية على مسيرته الشعرية والانسانية معاً، كما تضع اطاراً تاريخياً حينما تستعيد المناخ النفسي والزمني للعيد من المعارك التي خاضها، كما تلقي الضوء على الظروف التي نظمت فيها قصائده العامية.
وحينما غادر الجواهري الحياة في صيف 1997 شيعت الآلاف المؤلفة من البشر جثمان الشاعر، وانبرت المئات من اقلام المبدعين العرب والعراقيين تكتب الدراسات والشهادات والقصائد والمقالات عنه، امثال: كريم مروة، هادي العلوي، ابراهيم السامرائي، فلاح الجواهري، حسن العلوي، محمد دكروب، حبيب صادق، محمود امين العالم، عبد الوهاب البياتي، سعيد عقل، سعدي يوسف، محمد حسن الامين، جوزيف حرب، عبد الرحمن منيف، ادونيس، نزار قباني، محمود درويش، فاروق عبد القادر، شوقي بغدادي، محمد علي شمس الدين، زهير الجزائري، رواء الجصاني، محمد حسين الاعرجي، حسب الشيخ جعفر. ولا بد ان مثل هذه الاسماء الكبيرة قد اطلعت على مذكراته قبل رحيله، ومنها استلهمت حياته العاصفة المثيرة، فكان لا بد لنا ايضا من الوقوف بشكل موجز على حقائق رواها لي شخصيا الفنان الراحل يوسف العاني عام 2001 مع شهادتين تعززان قراءتنا هذه المذكرات، فمن اطلع على مذكرات الجواهري او قرأها بإمعان وروية قد يجد هوة كبيرة ومتسعا ملموسا بين اسلوب وروحية الجزء الاول عن رديفه الآخر في الجزء الثاني، كأي انشطار او اغتراب قد حصل في السياق العام للمذكرات. ولا اغالي ان قلت ان الجزء الاول قد كتب باسترخاء واضح وذاكرة مكتنزة، بينما كتب الجزء الثاني بانفعالات مثيرة وعنفوان ملموس وبأسلوب برقي يذكرنا بأسلوب الروائي هيمنغواي.
هذه الحقيقة الاسلوبية ادركها معي الاستاذ يوسف العاني، -كما سنرى – حينما سألته عن الواقعة الطريفة التي حدثت لهما مع بقية اعضاء مؤتمر انصار السلام التأسيس الذي انعقد في مدينة فروتسلاف البولندية، في الخمسينات، بعد ان اجبر اعضاء الوفد العراقي على خلع ملابسهم الخارجية ومحاولة فحص اجسادهم دونما سبب وجيه في احد المطارات الاوربية. فأجابني العاني ضاحكاً: لقد هاج الجواهري وماج صارخاً بسلطات المطار:" أسويها فضيحة عليكم وانزع صلوخ ربي كما خلقتني؟".
وحينما سألت العاني عن رأيه الصريح بمذكرات الشاعر قال: "الجزء الاول فقط سلس، هائل، عال العال، اما الجزء الثاني فـ..". ولا نستغرب رأي الفنان يوسف العاني البتة. فربما كتب الشاعر الجزء الاول في براغ عندما كان موفور الصحة، سليم البصر، ومن دون استعانة بأبنائه وتلامذته ومريديه. وحينما سعى الى كتابة الجزء الثاني في دمشق استعان بالأديبين زهير الجزائري ومحمد حسين الاعرجي، فضلا عن ولديه كفاح وخيال الجواهري والبعض من اصهاره ومعارفه، ومنهم صباح المندلاوي ورواء الجصاني بعد ان هدته الشيخوخة وكلّ بصره وضعفت انامله في مسك القلم.
لقد جاء في شهادة زهير الجزائري المذكورة: ذات يوم جاءني ابنه كفاح وقال لي الوالد يحتاجك لأمر يتعلق بكتابة يومياته... وكان الجواهري قد سجل يومياته على اشرطة فيديو في شقته، لكنها سرقت خلال استراحته في مقهى براتسلافا، وبدأ يروي مذكراته الى جهاز تسجيل في غرفة صغيرة في دمشق.
ويضيف الجزائري: فكرة الجواهري عن اليوميات كانت ملتبسة، اعترافات على طريقة جان جاك روسو، شهادة في الاحداث التي عاشها والشخصيات التي عرفها، اعطاء رأي لاحق بكل تلك الاحداث، لكنه اراد ان يقدم نفسه بكل تناقضاتها، بحسناتها وعيوبها.
ويقول محمد حسين الاعرجي في شهادته: شرعت اخطط ان نسمَر في شقته بأسئلة اسأله اياها كل ليلة على موعد الصينية "موعد الشرب" ويكون عادة على العاشرة ليلاً، مع فارق التوقيت. وكان يسمي هذه الأحاديث "مدار" كان يشتقها من "الدرد" المولدة في العصر العباسي مما لا يزال يستعمله العراقيون، فاستمرت المداردة اثنتي عشرة ساعة كانت محفوظة في اثني عشر كاسيتاً من عاد 1982-1994.
اخيراً. هل لنا حقا من خلال الجواهري ان نقرأ تاريخ العراق الحديث؟