هل يغلب الخجلُ النبوغ؟ أم يظل يرافقه؟ أم ينتصر النبوغ عليه؟ ثلاثية نفسية داخلية، مالت "نزيهة" الى طرفها الأول حيناً، ولامست مدخلها الثاني مرارا، وركنت الى طرفها الثالث في نوبات عديدة، ثم حملتها معا بأطرافها الثلاثة ومضت بها الى المجد.
انتسبت الى كلية الطب في زمن كانت فيه ملايين النسوة العراقيات أميات وربات بيوت في الأرياف والمدن.
أحبت مهنتها الجديدة، لكنها لم تستسلم لرقي ومكانة مهنة يشار اليها بالبنان. كان ثمة ما يشغلها ويحثها على صعود منبر القيادة، ليس طمعا بأبهته، بل للانطلاق منه الى هموم المرأة ومعاناتها وملفها الشائك، كان نداء الوطن أعلى.
لا بد من الدخول الى "السياسة" اذن!
استدعتها مديرية التحقيقات الجناية (الأمن العامة) حالما علمت بنشاطها السياسي. قال لها المدير:"أنت ابنة عائلة، وطبيبة، شلج بالسياسة؟". أجابته بنبرة سمو مدهشة: "العمل الوطني ضروري. لازم اشتغل بالسياسة. أنا أحب الطب، ولكن أن أنشغل بالطب ووطني تحت الوصاية الانكليزية.. صعبه هاي.. حيل صعبة"!
أُبلغت بخبرٍ أغرب من الخيال.. "الزعيم يريد يشوفچ". أجابت بذات السمو:"شنو يريد ايشوفني"؟
استقلت باص نقل الركاب وذهبت الى وزارة الدفاع. استقبلها الزعيم وأخبرها أنها ستتبوأ منصب وزيرة!
- وزيرة؟ "يا به آني كولش بسيطة وطبيبة، شنو علاقتي بوزيرة؟
هه، هه، هه، هاااي.. لو جئت اليوم ورأيت "عركة المناصب" والمحاصصة وشراء الكراسي ووو!
بهذه الروحية والبساطة والنزاهة، تفاعلت مع معادلتها النفسية الثلاثية، ومضت الى المحافظات من جنوب العراق الى شماله. عقدت ندوات نسوية كثيرة، سألت النساء عن مشاكلهن، حاورت المعنيين، رددت مع نفسها: "المرأة العراقية مظلومة كولش، مو اشلون مچان، وكلما حاورت النساء وعرفتهن على حقوقهن ومكانتهن، كُنَّ يقتنعن سريعا. كولش طيبين العراقيين أويلي عليهم". وهنا فكرت "الدليمي" بصياغة قانون هو بمثابة "انجاز اسويه لخاطر المرأة العراقية، خطيه"!
من ذلك المنبر صنعت مع من أعانها أخطر قانون للأحوال الشخصية في المنطقة. وتم اقراره بفخر، ليغدو أحد أهم منجزات ثورة تموز.
"طلع القانون، يابه صارت فد كبه رجعيه كبيرة"!
نعم هم هكذا قوى الظلام يا نزيهة.
بعد "الانقلاب القبيح" في شباط 63 أصدرت "محكمة الثورة" حكماً بإعدامها، ثم خفف الحكم إلى المؤبد مع الأشغال الشاقة، ثم أعفي عنها.
ولكنها انتصرت، وانتصرت بعزيمتها المرأة العراقية. لماذا؟ هي من تجيب على هذا.. "لو اني كنت ويه التاريخ ماشيه مچان صرت وزيرة. اني اشويه سبقت التاريخ".
أها....
اذن هكذا هو الأمر. أيتها الرائدة، الناشطة، العراقية، الوطنية. يا أول امرأة تستلم منصب وزيرة في عموم الدول العربية والاقليمية، يا من أسهمت في صياغة أخطر قانون مدني. يا من حملت هموم العراقيات والفقراء والمرضى في حدقتي عينيها. يا من تحول قلبها الى عضو يشبه خريطة العراق. انتصرتِ لأنكِ رددت بسموكِ المعهود، بمعادلتك النفسية الثلاثية: أحب مهنة الطب، ولكن أحب العراق أكثر.
انتصرتِ يا نزيهة، لأنكِ نزيهة الدليمي!