سرديات الحرب والاستبداد والعنف الأهلي هي التمثلات الخطابية التي استغرقتها رواية "ليلة المعاطف الرئاسية" للكاتب محمد غازي الأخرس والصادرة عن دار الحكمة/ لندن 2018
تعتمد هذه الرواية على لعبة سردنة الزمن في التعاطي مع سعة الأحداث، وهذا التعالق بين الزمن والسرد هو المجال السردي الذي تمثلته حيوات الرواية، بوصفها حيوات واقعية أو حيوات متخيلة، فكلاهما يتشاطران رعب الفقد والاغتراب، حيث يتحول السارد الموضوعي الى راءٍ لتوحش الواقع، والى سارد محفوز بهاجس التخيّل، يستدرج قارءه الى تتبع سيرة الأحداث، عبر ثنائية المفارقة، والعجائبية، وعبر وظيفة السفر الى عوالم الموتى/ الضحايا، مثلما يضع شخصياته امام "كمائن" سردية، تلك التي تندفع اليها، أو تعيش عبرها التباس العيش في الواقع، أو التنطع خارج حدوس التخيّل.
الرحلتان - الواقعية والمتخيلة- لعبة سردية مقترحة من الروائي لمقاربة فنطازيا الزمن العراقي، أكثر من تمثيلها لثيمة التحول الكرنولوجي والتاريخي في المكان العراقي، حيث يستدعي عبر هذا الزمن وظيفة توصيف تفاصيل ما يجري، ووظيفة الحفر في تلك التفاصيل، عبر ذاكرة الحرب والاستبداد والصراع الاهلي وصور الخطف وعنابر القتلى.
حركة الروائي تندفع نحو اتجاهات متقاطعة لخلق فاصل بين الرحلتين، لكنها في الجوهر تؤدي وظائف خطاب- سردية، كالتي اشار لها ياكوبسن، الانفعالية، التواصلية، والتأثيرية، وحتى الوظيفة النسقية كما يسميها الغذامي، تلك التي تتكىء على اللعب السردي، وعلى ما هو مضمر فيها، عبر التنبيه، والايحاء، ولتكون هذه الوظيفة معادلا لوظيفة فلسفية تقارب محنة الانسان الوجودية واغترابه وموته العبثي في حروب سلطوية وأهلية وفي رحلات كابوسية..
سردية الفنطازيا هي اللعبة المتخيلة ابتكرها المؤلف للتخفيف من فنطازيا الواقع، ولوضع "الحيلة السردية" كمجالٍ اجرائي لفك التباس ما يجري، أو كواسطة حكائية لتحبيك احداث الرواية في واقعيتها، وفي تزمين السرد وموضعته في السردية التخيلية.
الرحلة الواقعية الغرائبية هي رحلة للكشف عن الخراب والجحيم، عبر الزمن السياسي، وعبر الزمن النفسي، وحتى عبر الاحداث الاكثر غرائبية في معسكر الجنرال كوكز، حيث تبدأ من العنونة، بوصفه عتبة/ أو حيلة نسقية تتبدى عبر حدث اختطاف "القارئ- الكاتب" وتوظيفه كواسطة للكشف عن انثيالات ذاكرة الحرب، ورعب الجنرالات الذين صنعوا للحرب متاحف، وانثربولوجيات تقوم على فعل التخريب الأنسي، وعلى فرض توصيفات للقتلى، من خلال تصنيفهم، ومن خلال طرائق حفظهم في العنابر، وفي توسيمهم بعلامات معينة.
كما أن رحلة الاستاذ عواد في البحث عن ابنائه المخطوفين هي مقابل اغترابي للرحلة الاولى، إذ تقوم رحلة الاستاذ عواد على كشف غرائبي لواقع لا يقل فنطازية عن ما يجري رحلة الجنرال كوكز، فكلاهما يتماثلان بالزمن "ليلة ونصف نهار" وبالمكان الكابوسي التوصيفي للمدينة، وكأن هذه المدينة هي الجحيم الدانتوي، وهي الفضاء العلاماتي لذاكرة الحروب، ولضحاياها الخائفين والملاحقين، والذين "يموتون كلّ يوم بسبب تجدد خوفهم" كما يقول الروائي..

سيميائية التحوّل.

هذه السيمياء تتعالق مع طبيعة التحوّل الذي تعيش هواجسه الشخصيات، عبر ما يصطنعه الروائي من حيل سردية، أو عبر ما يقترحه من احداث يتضخم فيها الواقع لينفجر الى وقائع/ هوامش/ "تخيلات" يستكنه من خلالها الروائي خفايا التوحش والفزع الذي تصنعه الحرب بوجوهها المتعددة، أو ما تعيشه تلك الشخصيات من رعب التحول بوصفه اغترابا وأضحوية..
تشظية الزمن وتحوّله لا تنفصل عن لعبة التحول في السرد، إذ يقودنا الروائي عبر سفر رحلتي "كوكز وعواد" الى استغراقات يتقنّع فيها التحوّل بالمسوخ، ويشتبك فيها الواقعي بالتخيّلي عبر شفرة الرعب، حيث تتسع مساحة السرد الفنطازي، وحيث تنخرط الشخصيات في هوس تحولها الفنطازي، إذ تتحول لعبة السرد من صيغتها الخيطية الى صيغتها العمودية، تجوس في عوالم الشخصية "المسكوت عنه" ولتجسّ شفرات اغترابها ورعبها الداخلي، حيث ينفضح عريها الوجودي، ولتجد نفسها أضحية سيميائية للتاريخ، ولحرب الجنرال/ الرئيس، ولهوسها في "ولادة حروب أخرى" والتي تصنع مزيدا من الشخصيات المشوهة والأضحوية، وكأن الروائي أراد أن يقيم تناظر بين تشوه السلطة، وبين تشوه الشخصية، وعبر نمذجته لشخصية الجنرال كوكزالمتحوّل، ونمذجة "الخاتون" علياء مطر، واطروحتها في "المقاييس السوسيوكولوجية الثابتة لنمط الشخصية العراقية الشجاعة" لدراسة الوظائف الاشباعية لمفاهيم "النقص الوطني" والخيانة خلال الحرب، بوصفها علامات تُعبّر عن طبيعة ما تصنعه السلطة من تحوّل جيني، وتحول ايديولوجي وتحول في "السستم" ذاته، وطبيعة ما تصنعه الحرب من موتٍ سيميائي تقترح له السلطة مقابر وتوصيفات رمزية، ومتاحف ومختبرات واقعية.

ما بعد السرد ولعبة الكتابة..

يضعنا الروائي أمام لعبته السردية، لندرك قصديته في كتابة رواية أثر الحرب، على الشخصية، فالعنونة تقودنا الى تحديد زمني "ليلة" والمعطوف عليه "المعاطف الرئاسية" هي احالة وظيفية للتعريف بما تصنعه هذه ليلة الحرب، كواقعية عراقية، وكشفرة تخيّلية، وكأفقٍ داخلي يتسع له السرد في انثيالاتٍ يستدعي لها الروائي التاريخ عبر شفرة الحرب، مثلما يستدعي الشخصيات عبر سيرة ورحلة خرابها الوجودي.
فالروائي/ الكاتب يقترح وجود المخطوطة من خلال عثور الخياط السيتيني عليها، وهي تحمل عنوان "ليلة المعاطف الرئاسية" بلون أزرق وفي ظرف مفتوح، وطبعا تخلو هذه المخطوطة من الاسم كما هو حال المخطوطات "الميتاسردية" حيث تضم عشرين قصيدة مكتوبة بخط واضح، وكأنها مفتتح لما سيقوله الكاتب في روايته، ولما يقترحه من شخصيات، وزمن ومكان، ومن تداخل يتعالق فيها السرد/ السيرة، مع الميتاسرد بوصفه لعبا قصديا في توتير الفضاء الحكائي للرواية..
اللعبة التوصيفية في الرواية تضعنا في دائرة التمثيل الغرائبي للواقع، ولكل ما تطرحه "الانا الساردة" من تخيلات وهي تصوّر وتصوغ احداث "ليلة المعاطف" بكلِّ ما تنطوي على لحظات فنطازية، يستعيد معها الكاتب ذاكرة الحرب العراقية الايرانية، مثلما يستعيد علاقتها بالحرب الاهلية التي عاش رعبها العراق بين عامي 2006-2007، والتي تحولت الى عتبة بؤرية انطلق من خلالها الكاتب لسردنة عوالم الضحايا الذين يتماثلون في الحروب، من خلال الرحلة الغرائبية للجنرال كوكز مع خطيفته او ضحيته "القارئ – الكاتب" الذي يقوده الى معسكر الرعب الفنطازي، والى مختبرات التحوّل، وعنابر القتلى وكأنها رحلة متخيّلة في جحيم دانتي، وكذلك من خلال رحلة العذاب العوليسي للأستاذ عواد مع الراوي بحثا عن اولاده المخطوفين المقتولين في شوارع بغداد المسكونة ايضا بسرديات القتل الطائفي ورصاص القتلة العابثين بالتقاط ضحاياهم العابرين.
انسحاب الانا الساردة من المخطوطة الى الواقع هي لحظة قطع، حيث الذهاب الى الفنطازيا، والى ما تعلله من انسحاب انطولوجي يقوم على مفارقة التاريخ الى السرد، وعلى استدعاء تقانة التجوال، كنوع من التحبيك السردي الذي لا يكتفي بالعرض والتوصيف، بل باستيهام الكشف الرمزي عن الغائر في عوالم شخصيات الرواية، والتي تعيش عبر تشوهاتها الداخلية أوهام عالمها الخارجي، عالم الزيف والخداع والخضوع والممالاة، بدءا من شخصية كوكز الذي ينزف من عينيه دائما، والذي يعكس تشوه البنية السياسية التي اسهمت في صناعة انموذجه المشوه في التحوّل، من شخصية هامشية، وبرتبة عسكرية بسيطة ليكون جنرالا قاتلا في مؤسسة السلطة خلال الحرب العراقية الايرانية، أو من خلال سذاجته في خطفه القارئ –الكاتب لكي يفك شفرات اوراق/ قصائد الخاتون.
شخصيات الرواية نماذج مشوهة وأضحوية للسلطة، والتي تواصل هوس خلاصها عبر الزيف والغلو، بما فيه زيف علاقتها بتلك السلطة التي تحضر-هنا- عبر قمعها للمثقف، واعتقاله بطريقة مريبة، واخضاعه الى سرديات الجنرال، والى متاهة رحلته الكابوسية، فضلا عن حضورها عبر شفرات معاطفها الرئاسية، بوصفها الرمزي، وعبر توحشها في صناعة علامات غرائبية لموتاها/ من الضحايا والابطال، وعبر ما تتركه من سرديات يتمثلها القتلة الذين ظلوا يواصلون لعبة اباحة القتل الواقعي والسردي في شوارع المدينة الشائهة.

عرض مقالات: