على الرغم من أن اشخارا من بنات ارورو ورباتها إلا إن طغيان سطوة جلجامش بعد انتزاعه السلطة منها جعل اشخارا والأخريات تابعات لسطوته الذكورية. ولذلك لم يتح لهن أن يثأرن إلا حين صنعت ارورو انكيدو ليكون غريمًا لجلجامش بعد أن استدرج الإلهين الذكريين الصياد وأبيه ليوصلا إلى جلجامش خبر وجود نظير له في البرية يضاهيه في البأس والقوة يدعى انكيدو.

وبذلك بدأت الإلهات الإناث يتهيأن لممارسة دورهن الانتقامي وأولهن اشخارا التي صوَّرتها الملحمة بغيًا وهي في الحقيقة كانت معلمة هادية تنفذ رغبة الأم الكبرى في الانتقام من الأبوية التي سلبت من الأم دورها وجعلتها تابعة بعد أن كانت هي المتبوعة.

ويبدو أن القول بإن اتصال اشخارا بانكيدو كان لأجل إغوائه وتزويده بالمعرفة؛ فان ذلك من تبعات النقد الذكوري الذي تبنى وجهة نظر كاتب الملحمة الذي أراد تغليب الرؤية الذكورية عبر توكيد بطولة جلجامش ضاربًا الصفح عن أرورو ودورها الحكمي والأمومي.

وكان الأستاذ الدكتور شجاع العاني قد ذهب إلى ان أنسنة شمخة لانكيدو كانت لأجل المعرفة البشرية التي تريد قتل الشر في الانسان وليس كما ذهب المفسرون من أنها أوقعت بانكيدو، ممارسةً فعل الإغواء وعد ذلك التصور مخلفا من مخلفات المرأة كمثل أدنى مدان.

لكننا نستبعد أن يكون انكيدو محتاجا للمعرفة لأنه في الأصل أتى من البرية/ الطفولة /اليوتوبيا التي فيها المعرفة والحكمة هي الأساس، كما نشك أن تكون اشخارا قد كشفت بصيرة انكيدو كون هذا هو ما أراده كاتب الملحمة كأي مؤرخ يريد أن يكتب للتاريخ ما يريده المذكر المنتصر مما يصب في مصلحة سلطة الأب/ الملك لكنه يسكت عما هو حقيقي أو فعلي يصب في صالح المنهزم الأم/الكينونة المؤنثة .

ولعل تضليل اشخارا لجلجامش ومعه الآلهة الذكور كان أمرًا لا بد منه، لأنها به ستنفذ بغيتها وكأنَّ في ممارسة جلجامش الاتصال بها في طقس الزواج إشعار أنها كانت تابعة له وتحت سيطرته، لكنها استطاعت بالمداراة والمخاتلة أن تؤدي وظيفتها لتكون المعلمة الموجهة والمرشدة الهادية بالمعنى الميتافيزيقي.

 وهذا عكس ما حاولت التفسيرات الذكورية الترويج له والتي اتفقت على أن شمخة مجرد بغيّ. وسيتضح دورها الحكمي في نهاية الملحمة حي تنفرج الأحداث ويتبين أن بالحكمة يخلد البشر وليس بالجسد. أمّا انكيدو فإنه نفسه كان عارفا دوره وانه بالحكمة سيستطيع أن يغلب قوة جلجامش وهكذا كانت بؤرة النزاع ذكورية وهذا ما أرادته الآلهة المؤنثة. لكن لماذا لم يقتصر الدور الاستعادي للسلطة الأنثوية على الإلهات وحدهن من دون انكيدو؟

ربما لان ارورو وجدت بناتها أو رباتها في تناقص فاحتاجت إلى الرجل لتودع عنده سر المعرفة وأنها بمناصفة الحكمة مع الرجل ستكون قد أكدت نيتها الصادقة في أن تمنح الآخر خيرها وتتنازل عن انفرادها مبيحة له أسرارها كي يؤازرها وهذا بالضبط هو ما أتاح للذكورة أن تنقلب عليها وتستلب منها دورها وسلطتها. وليس في هذا تحول حضاري بل هو انكسار تاريخي كما يرى انجلز، فارقت فيه البشرية فطرتها الأولى إلى الأبد. ليكون الصراع بين جلجامش وانكيدو صراعًا تاريخًا بين مرحلتين مرحلة البراءة والوحشية ومرحلة الأبوة والبريرية. وكان انجلز قد قسم أطوار ما قبل الحضارة إلى طورين الطور الأول هو طور الوحشية أي طفولة النوع البشري والطور الثاني هو طور البربرية الذي بدأ مع ظهور الفن الفخاري والطين المقولب وتدجين الحيوانات والسكن في الأودية المعشبة، وما كان دخول انكيدو إلى أوروك ومعه اشخارا مجرد غواية، ولكن إيقاعا بجلجامش كي يتنازل عن غروره وجبروته من خلال صراع الغرماء الذي انتهى بأن أصبحوا أصدقاء. وهذا ما أرادته الآلهة الإناث وهن يسعين إلى إشاعة دائرة الخير ..

ولا ننسى أن ذهاب انكيدو مع جلجامش إلى غابة الأرز لم يكن بناءً على اقتراح جلجامش فحسب؛ وإنما بمقصدية أكنّها انكيدو في نفسه كي يردع جلجامش عن نزعته العدوانية وحبه للقتال، ناشدًا حياة الاكتشاف والتعرف.

 ولقد كان إخبار انكيدو لجلجامش بما يعرفه عن خمبابا منذ كان يعيش في البرية مع الوحوش، توكيدًا قاطعًا أنّ انكيدو كان قد قدم من هذه الغابة التي هي الأرض اليوتوبيا. وإلا لماذا وبخ خمبابا انكيدو وعاتبه كونه أتى بجلجامش؟!! ولمَاذا بكى انكيدو؟ هل خوفا أم لأنه في الأصل جاء من تلك اليوتوبيا/ الغابة التي كان عارفا مساحتها وما فيها وطبيعة خمبابا وقوته؟

ولا يخفى أن انكيدو ما قال: "يا صديقي أشعر بأن الخوف قد شلَّ جوارحي".. إلا لأنه أراد أن ينزع روح العدوان والقتال من نفس جلجامش. ولما فشل في ذلك؛ مرض ومات. ولعل هذه الارادة هي التي نحت بانكيدو هذا المنحى المأساويّ الذي انتهى بموته كمدًا، بسبب عدم قدرته على تغيير جلجامش وأنه أي انكيدو أخفق في تحقيق الذي أرادته الإلهة الأم منه.

وبعد أن عجزت حكمة انكيدو عن الوقوف أمام بطولة جلجامش، عزم هذا الأخير على قتل خمبابا، وأخذ معه فأسا وقال لأنكيدو "أما أنت فامكث هنا وسأذهب وحدي" وقد رأى الأستاذ طه باقر أن سبب ذهابهما إلى الغابة كان بقصد الترفيه عن انكيدو، إذ قال:" ولعل الذي عجّل لجلجامش الشروع في سفره البعيد أنه أراد أن يرفّه عن صديقه انكيدو، الذي يبدو أنه سئم حياة الحضارة، وحن إلى حياته الأولى في البراري والقفار". وهذا التفسير لا يتفق وحجم الدور الروحي والمعرفي الذي أتى انكيدو من أجل تحقيقه وهو الدور الذي كانت الآلهة قد عرفته في مجمع الشورى، لذلك طلبت من جلجامش أن يجعل انكيدو أمامه دائمًا:

ـ لا تتكل يا جلجامش بالكامل على قوتك

لتكن عيناك ثابتتان اتكل على ضربتك

أم من يسير في المقدمة ينقذ الرفيق

ومن يعرف الدرب ينصر صديقه

ليسر انكيدو أمامك

وهذا إقرار من الآلهة الذكور أن انكيدو يعرف الغابة اليوتوبيا، لأنه قدم منها كما أن ننسون الحكيمة التي هي من بنات ارورو علمت ذلك أيضا ولذلك وجهت جلجامش أن يطلب الحكمة والمساندة من انكيدو. وقد وصفت الملحمة قدوم انكيدو بالهبوط والنزول، في إشارة إلى أنه كان يعيش في عالم أرقى وأسمى يوصف بأنه برية أو يوتوبيا، وجعلته على صورة انو فغسلت يديها وأخذت قبضة طين ورمتها في البرية، فخلقت انكيدو من نسل إله الحرب ننوتا القوي وشعره كشعر الإله الانثى نصابا إلهة الغلة والحبوب، ولباسه مثل لباس سموقان اله الماشية يأكل العشب كالظباء. وقد انتهت مهمة ارورو بخلق انكيدو لتترك لبناتها الإلهات ممارسة الدور الانتقامي من الذكورية. وأرسلت معهن انكيدو قادمًا من أرض ما عرفتْ إلا التعاون والتشارك بوئام بين الذكور والإناث ضمن أرض هي اليوتوبيا، ليذهب إلى أوروك المنيعة التي تعج بالبغايا والغلمان والشهوات فكان غريما لجلجامش قادمًا من أرض غير أرضه. وله معتقد غير معتقده. انه من زمن البراءة الذي لم تدنسه الرغبة بالاستحواذ والسلب.

 والسؤال ألم يكن جلجامش مستعدا لمجيء انكيدو؟

 ربما يكون امتثال شمخة لطلب جلجامش، قد جاء بقصد استدراج انكيدو إلى مملكة الأبوة الذكورية، لكي توقع جلجامش في المصيدة، وبعمله هذا سيعزز دور الأنوثة في الاهتداء وإعطاء النصح والإرشاد. ولهذا تصفه ننسون:

هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق

ومن المهم الإشارة إلى أن الحوارات التي دارت بين اشخارا وانكيدو تسير كلها في درب الخير، هادفة إلى الاهتداء والمعرفة؛ بينما كانت حوارات جلجامش مع اشخارا وننسون وعشتار تنطوي على بعد استحواذي تسلطي سمته التفرد بالقوة والتميز بالغلبة.

عرض مقالات: