امتلك أغلب الشعراء العراقيين الذين ينتمون الى جيل الحربين - كما شاعت تسميتهم - القدرة على تشكل مشروعهم الشعري خارج المؤسسة الثقافية الرسمية، ولعل فجائع الحرب قد اسهمت في بلورة الرؤى الفكرية والجمالية لهذه المشاريع التي وجدت في مخرجات تلك الحروب تحد ازاء الوجود الإنساني الذي بات مهددا بصور وأشكال شتى، ولم يجد الشعراء حينها بدا من الدخول الى منطقة أكثر حدثانية من تلك التي ولجتها الأجيال السابقة وانطلقوا من آخر ما توصلت اليه تلك الأجيال وسوغت لهم البدء بمشاريعهم الصادمة مستمدة من تلك الفواجع والنكبات الحربية رؤاها، فكانت اضافتهم واضحة لقصيدة النثر، واضحة عبر استخدام التقنيات الحديثة التي وضعت النص في منطقة الجدل والانفتاح على تأويله وفق صيغ شكلية لم تكن مجردة من المضمون بل عززته لتصل به الى خط الشروع لبدء المشهد الشعري الجديد، ومن بين هؤلاء الشعراء الشاعر ولاء الصواف الذي أصدر ديوانه الشعري الأول "كاميكاز" عام 2000 بطريقة الاستنساخ التي شاعت في تسعينيات القرن الماضي لتؤشر مرحلة القطيعة الشعرية مع خطاب المؤسسة الثقافية الرسمية، وأعقبه بكتابين شعريين "كفن شهريار" و "مطر مايو" وهما مخطوطتان، ثم اصدار ديوانه الجديد "أغاني الصموت" 2018 عن دار الصوّاف للطباعة والنشر، ويتضمن الديوان الترجمة الكاملة للنصوص الى اللغة الإنكليزية وقام بترجمتها الاستاذ صلاح السعيد والاستاذ محمد جودة العميدي، وسيكون موضوعا لمقاربتنا النقدية التي ستختار نماذج تشكل رؤية الشاعر وقدرة النصوص في النفاذ الى ذائقة المتلقي المعرفية والجمالية.
يشكل العنوان "أغاني الصَّموت" ثنائية ضدية تحمل على التدبر والوصول الى دلالته وفك الاشتباك الحاصل بين طرفي هذه الثنائية، فالمفردة الأولى تشير الى وجود أغان ولاشك بأن هذه الاغاني وفق مدلولها هي أصوات صريحة تتسم بالنغم أيا كان اتجاهه حزينا او فرحا، وأن هناك من يؤدي هذه الأغاني، الا انها تضاف الى صموت يفتقد الى الصوت، فالتقاطع قائم بين المدلولين في حالة اجراء التقابل المعجمي للمفردتين، لذا فإن هنالك حتما مدلولا آخر يوفر القناعة بوجود أغان كهذه يقوم بها صموت لا يتكلم، ولعل هذا الاستخدام المجازي يشير الى امكانية البوح بهذه الأغاني من قبل الصموت الذي ربما تقف وراء اسباب صمته دوافع كثيرة لعل في مقدمتها وجود كوابح ما او موانع تمنعه من الغناء بصوت مسموع، وهنا تأخذ قصائد الديوان فعلها في توصيل تلك الأغاني، وهو كما نرى المراد من جمع النقيضين ليشكلا وحدة نستدل بها على وضع الشاعر النفسي الذي لم يتمكن من التصريح المباشر بفحوى تلك الأغاني فآثر كتابتها لتكون مدخلا الى تجربته التي أهداها الى " حبل الغسيل الأزرق لأرجوحتي " ليعود الى طفولته الأولى التي كان فيها لحبل الغسيل دور وسبب لسعادته بتحوله الى ارجوحة تضج بالمرح والفرح، ولعل لهذا الفعل مرجعية في ذاكرة الكثير من الافراد المحتفين بالتفاصيل الصغيرة والمؤثرة والمكونة لشخصياتهم فيما بعد، ويكرس النص الأول في المجموعة هذا التفصيل الحياتي في ذاكرة الشاعر على نحو أكثر اتساعا وامتدادا توصل اليه فيما بعد:-

"منذ خمسين قطافا أو يزيد
أهزها مرة، وصوت الحرب يهزها ثانية
تأخذني للغيم
وتعيدني الى الأرض الحرام.... "

فالنص الآنف يقيم علاقة مقارنة بين ارجوحة توصله الى الغيم فرحا وسرورا وأخرى تهزها الحرب ليبقى في ارض يتعرض فيها الى الموت، وفي الوقت الذي كانت فيه ارجوحة الطفولة تصعد به الى الغيم فإن ارجوحة الرجولة المرتبطة أبدا بحرب يخوضها رغما عنه وليس له فيها ناقة ولا جمل وتجعله مشروع موت مستمر، وهكذا يفصح النص عن مسكوت عنه شكّلته الطفولة والحرب منذ خمسين عاما.
وفي نص "الدار للبيع" يجتهد النص في ايجاد نوع من التعالق بين الذاكرة المكانية وليس المكان وبين الذات التي كونتها تلك الذاكرة الممتدة منذ الطفولة والى الآن، لتبقى تلك الذاكرة معيارا للانتماءالمتأصل بالذات وتفاصيل مراحل العمر الممتدة :

"للإتصال07801168410
هي وأنينها
بشبابيكها المفقوءة
ونخلتها العجوز
مع خربشات الطفولة
على جدرانها الصماء
:
آسف.. الدار ليست للبيع
لأجل عيون خربشات الطفولة...."
فالنص السالف تنطوي الدار على جملة من المكونات الظاهرة منها والمضمرة. ويبدأ بالمكون المضمر الدلالي وهو "أنينها " وهو علامة لغوية للإشارة الى عمق معاناة أهل الدار وفق مجازية واضحة لعدّ الدار منظومة ذاكرة ممثلة لتعالق ساكنيها بها - الدار - وهي رؤية فينومولوجية للدار كمكان كلي يحفز المتلقي على تصور ظاهراتي يبدأ من مجازية انين الدار لينتقل الى المكونات الظاهرة التي تم بناؤها وفق دلالات انزياحية لها تبتعد عن الرؤية الظاهراتية التي افتتح النص بها. فالشبابيك المخلوعة والنخلة العجوز وخربشات الطفولة والجدران الصماء مكونات تنزاح عن مفاهيمها السطحية الظاهرة للعين الى معان ودلالات تكرس منظومة قيمية مرافقة لتأريخ ساكني هذه الدار. وعلى الرغم من تهالك الشبابيك المقلوعة وشيخوخة النخلة التي تحيل الى شيخوخة وقدم ساكني الدار وتآلفهم مع هذه الشبابيك والنخلة حتى غدت هذه المكونات جزءا من ذاكرة المكان الكلي - الدار - وازاء منظومة قيمية كهذه ترتبط بالإنسان ومكونات شخصيته المتعالقة بالمكان فإن محاولة "بيع الدار" تبدو محاولة للتخلي عن تأريخ شخصية الساكن خاصة اذا ما عرفنا بأن "خربشات الطفولة " هي البئر الاولى التي منها شربت شخصية الساكن ومنها يبدأ مشوار التعالق المكاني. فالجدران الصماء لم تعد صماء بفعل تلك الخربشات الطفولية التي تشكل علامات التعبير الاولى والتي لا تنفصل بأية حال من الأحوال عن المكونات الاخرى المتعالقة مع شخصية الساكن. الا ان النص يترك سطرين ابيضين فارغين شكلا وقفة زمنية منحت عارض الدار للبيع فرصة اكتشف من خلالها خواءً داخليا حين وجد ان مكوناته الشخصية التي بدأت بالخربشات ستختفي في حالة البيع وهو ما يشكل تنازلا عن ارث الشخصية وتأريخها المكون. لذا فهو يستدرك بمفردة "آسف" للإشارة الى تراجعه عن البيع اكراما لتلك الخربشات التي تمكنت من تحقيق التعالق الظاهراتي القوي والمؤثر بين المكان - الدار - بكليته واجزائه المكونة له ليخلق النص عبر الرؤية الظاهراتية التي حققتها بنية الذاكرة المكانية وشعريتها، ويلاحظ حرية بناء النص واستخدام تقنيات اضفت على حركية النص دفقا جديدا كأستخدام رقم الهاتف المفترض والفراغ المتروك بين المقطعين الذي من الممكن ان يملأه المتلقي بحالات تختص بتلك العلامات الدالة على تفاصيل تعالق الذاكرة بالذات المتلقية ليتسم النص بشمولية يتماهى فيها المتلقي مع ما يبثه النص من حالات انسانية مؤثرة.
وبنفس القدر من التوجه لتخليق النص الآخر المتحقق شعريا فإن تعالقات أخرى للنص مع مفردات الحياة والواقع تتشكل بأسلوب اعتمد في اكثر تحققاته على آلية المجاز في زحزحة المفردات والوقائع ليهيمن صوت الشعري بعده غاية النص، ففي نص "اسلافي الأعزاء" تتشكل بنية العتاب من مجموعة من العناصر تبدأ بمفردة "ليش" ولعل استخدام هذه المفردة العامية تحمل دلالة غاية في العمق، فهي تقوم بوظيفة تغريبية تنبه المتلقي الى ما ركز في ذاكرته من معنى يتجاوز اللفظ الى ما يحمل وما يبث من معنى لا يعرفه سوى من تداول هذه المفردة، وكذلك بقية العناصر التي تشكلت وفق أسئلة عدت استفهاما انكاريا:
"اما كان يكفي....؟
الماء..الخبز..
السيف والخمر...والغواني
حتى تركتم لي وطنا
بلا قُبل؟"
اذ ان التساؤل "اما كان يكفي؟" يعد من العناصر المهمة التي كونت بنية العتاب للأسلاف، فالنص يشير الى امكانية الاكتفاء بكل مستلزمات الحياة التي توفرت للأسلاف الذين تركوا للذات الشاعرة وطنا بلا قُبل دلالة على جفاف الحياة وخلوها من المعاني الانسانية، وكان الأجدى التوقف عند الحدود التي جاءت بعد مفردة "اما يكفي؟" لينشغل الأحفاد في ترميم حياتهم اللاحقة وفق ما يريدون وليست كما ارادها الأسلاف، وإزاء ذلك فإن الذات الشاعرة لا تملك مقابل ما قدمه الاسلاف سوى تنهيدة مكبوتة ثوابا وعرفانا بالإحباط الذي صار عليه الأحفاد.
على أن من التجارب المتميزة في هذه المجموعة ونعدها سابقة تنويعية على شكل النص الذي أسهم في تحقيق هدف او غرض ما دون أن يكون مجرد تجريب اعتباطي هي ايجاد تعالق جديد بين متن النص وهامشه، اذ اتخذ هذا الهامش موضع الحاشية التي عادة ما توضع لشرح مفردة ما او توضيح أمر ما ورد في المتن بوضع اشارة فوق المفردة ليعرف القارئ ان هنالك توضيحا ما يلقي الضوء على المفردة المطلوب الانتباه اليها، الا ان هذه الحاشية لم تكن شرحا معجميا او وضع معنى للمفردة وانما اتخذ وضعا شعريا على شكل مقطع ينفرد بخاصية قد تخرج عن سياق النص وتتعالق مع امتدادات المفردة المشار اليها كما في النص الآتي:
"حين هوى الصلصال * من فم الرب.. تبسم
سيل الهمس تبدى..
بدفء الجسد المنحوت
من ورد وخمر
وليل صموت....

وهمست/ انت لي/ كم من نصف اله بليد.. انت؟ "
فالنص في الجزء العلوي منه مكتفيا دلاليا، الا ان وضع الاشارة "* " فوق كلمة الصلصال واحالتها الى الجزء الأسفل من الورقة قد اوجد نصا جديدا يتعالق ومفردة الصلصال في اشارة للخلق الأول وورود مقطع شعري جديد متولد من نص المتن له دلالته الخاصة، وضمت المجموعة أكثر من نص اتبع هذه البنائية، فضلا عن طرح تجربة أخرى مميزة وهي استبدال النص المركزي "المتن" ووضع مفردة "الهامش" وعدها هي المتن بينما اتخذ الجزء السفلي وضع "المتن" على غير ما جرت عليه العادة في الكتابة، وبكلمة أخرى فإن الشاعر قد جعل الهامش متنا والمتن هامشا، للإشارة الى مركزية وقوة الهامش في تجربته الشعرية هذه.
واجمالا فإن الشاعر ولاء الصواف في تجربته الشعرية الجديدة هذه "أغاني الصموت" قد استطاع ادامة تواتر النمو والتطور في تجاربه الشعرية منذ تسعينيات القرن الماضي ولحد الآن متمكنا من تخليق النص الآخر/ الجواني بتعالقاته المختلفة مع مفردات الواقع والحياة بفضاء شعري مميز.

عرض مقالات: