يبدو لي ان الجنوب احتل مساحة واسعة من المشهد الروائي في العراق، ويلعب التاريخ في تلك الروايات دور البطولة فهو المحور الذي تدور في دورانه الشخصيات والاحداث، فما حدث في العراق لا يمكن ان يحدث في اي زمان ومكان آخر، ففي العراق خصوصية تاريخية تلقي بظلالها على المبدعين والكتاب لتكون نتاجاتهم الروائية بهذا القدر من الدقة والصدق الانساني.

 في رواية "إصبع رابحة.." يجعل الروائي محمد حريب المتلقي لا يشعر بالملل وهو يتعاطى مع شخصيات الرواية وأحداثها التي تنطلق مكانيا من قرية "الغافية"، احدى قرى مدينة الناصرية، وتنحصر الرواية زمانيا في الفترة الواقعة من 1990 – 2003 وهي مرحلة تاريخية تمثل المخاض الذي عاش فيه المجتمع العراقي وعانى من ويلات حرب الخليج الاولى وتداعياتها ، "الحصار الاقتصادي" على الشعب العراقي، واستمرار النظام بالحكم في ظل التخبط وارتكاب الاخطاء لينتهي العراق بلد محتلا من جانب أمريكا تعبث فيه عصابات الارهاب ومافيات الجريمة المنظمة واللصوص والمجرمين وقطاع الطرق، والباحثين عن كنوز الاثار العراقية الغنية بالحضارات العريقة، وفي السرد المذهل هناك انتقال سلس للأحداث على الرغم من سرعة الايقاع وتكثيف اللغة الا انها تفي بالغرض وتجعل المتلقي يدخل في المعايشة المطلوبة لمتابعة الرواية بشغف ومتعة بما فيها من احداث محزنة تخص المجتمع العراقي.

قوة الاستهلال

 منذ الفقرة الاولى تتلمس السرد المبدع ، ففي هذه الفقرة الاستهلالية قدم الروائي بطله "يوسف بن صليو" وكشف مشاعره ،وعمله الذي يقوم به من اجل الحصول على كنوز حضارية من ضمن الآثار التي تمثل التاريخ العراقي العريق "الكل مجرم وخسيس.. باغ ومدع ومخادع، سفيه هذا الوجود، كان يهذي على أطراف قرية الغافية يوسف بن صليو وهو يجلس على تلة ترابية منخفضة وخلفه كلبته سكوتلا الأقرب إلى قلبه من بين كل المخلوقات"هنا يوحي الروائي للمتلقي بإن بطله لا يحب قريته ومن فيها بحيث يشتمهم بالجملة، ويفضل الحيوان "الكلبة" ويقربها أكثر من البشر! وبهذه المقدمة سيكتشف المتلقي أن يوسف شخص قبيح الوجه يلقب " بالخنزير " فقير ويتيم لا يحب اباه لتعامله القاسي معه وحتى شكوكه بأنه ليس من صلبه، امه المغلوبة على امرها "فرحانة" وهي الحزينة دائما ! والمتهمة ظلما بالخيانة تعاني من سوء المعاملة، وسيتعرف القارئ بإن صليو كان يعمل حارسا للآثار في الزقورة ويطمح للعثور على بعض تلك المقتنيات والكنوز الثمينة وهذا سر صداقته لأستاذ التاريخ "نديم" الشخصية المثقفة الوحيدة في الرواية "الشاب الوسيم ذو الطول الفارع والعيون العسلية والشوارب الشقراء الكثة..." صداقة صليو بهذا المدرس لغرض الاستفادة من معلوماته في التاريخ والآثار والجغرافية، لكن تردده على منزل صليو كثيرا جعل الشبهات تحوم حول علاقته بزوجة صليو.

لنكمل الاستهلال "ينتظر صديقه سرحان، هو الآخر يعاني من الظلم وبخل خاله شناوة المعيل لهما هو وامه بعد موت أبيه، ليواصلا التنقيب عن الكنوز الأثرية في اطلال الأوريين التي لا تبعد عن الغافية الواقعة إلى الشمال من قاعدة الأمام علي الجوية وجنوب مجسم الزقورة الخالد سوى بضع كيلومترات"

في الرواية قيم اخلاقية فقدت من المجتمع العراقي ، "محمد حريب "يغوص في قاع المجتمع ليقدم نماذج تمثل "الطمع، الفقر، الكراهية، البؤس، السقوط الاخلاقي" ويضعها في نسيج الراوية ببراعة فائقة، وسنتابع رحلة صعود البطل "يوسف بن صليو" من قاع اليأس الى قمة الأمل وبالعكس!

التاريخ والادب الفني

في هذه الرواية "إصبع رابحة" يكون للتاريخ حضور قوي ، القارئ يحس أنه يقرأ كتاب تاريخ يتضمن مرحلة حساسة من تاريخ العراق، المعلومات التاريخية تكاد تكون موجودة ومختلطة بشكل رائع بوظيفة الادب الفني للرواية، وتجد الاحداث التاريخية العامة لها إسقاطات مؤثرة في الحياة الخاصة للشخصيات والاماكن!

رحلة الصعود نحو الهاوية

في خضم التنقيب الذي يظل هاجس يوسف بن صليو للحصول على تمثال أورنمو "القائد التاريخي" مؤسس سلالة اور الثالثة  "القائد الذي لا تجود الحياة بمثله".. "استطاع أن يوحد الدويلات الصغيرة المتناثرة في بلاد الرافدين ليصل شمالا إلى حدود مملكة آشور وشرقا حيث العيلاميين فارضا سيطرته حتى البحر الأسفل" وهو من بنى الزقورة للإلهة "انانا" واعاد تنظيم الأمور السياسية في البلاد، اي ظل التنافس المحموم للحصول على هذا التمثال من قبل الجميع، هذا التمثال هو مفتاح السردية لولادة كل شخصيات الراوية ومنها يتعرف القارئ على حياتهم ومواقفهم ومصيرهم فتضاف شخصيات عراقية وحتى اجنبية الى المشهد السردي لارتباطها بهذا التمثال الذهبي "كاكا هافال ، الكردي ، مروان الأبقع ، من الرمادي ، فهدان العبد – الكويتي ، رحمون ، اليهودي ، دموع ودلال ، عالم الدعارة، وعشيقة يوسف وزوجته التي انتشلته من الفقر الى الغنى "هامة" واختيار الاسم فيه ذكاء فالهامة هي تعني "القمة"، وهامة كمال تعرف عليها يوسف في مقبرة وادي السلام بالنجف عندما كانت هي وامها تزوران قبر والدها الذي كتب على قبره بأنه توفى في 25/1/1990 وكان هو يدفن امه ،حينها طلب الحفار منهم ماء كي يريقه على القبر؟ لم يكن معهم ماء، فطلب يوسف الماء من هامة وامها، واخذ عنوانها ، وهي الفتاة التي ورثت عن ابيها العمارات والاموال، ليزورها في البيت وتعطيه عنوانها الجديد في العاصمة بغداد "دونت الرقم وسلمته له، فلمس أناملها.. وأحس برعشة رسمت على محياه خطوط الوله.. فهجم عليها وقبلها من كتفها صاعدا الى رقبتها وهي تهتز وتنوء.. حتى أطبق فمه على شفتيها تم تمدد فوقها.. فبدأ صدرها يعلو ويهبط وهو يمطرها بوابل القبل .. يفك أزرار جيدها ويدفن وجهه في صدرها" انشغلت كثيرا باسم الرواية "إصبع رابحة..." ولم اهتد الى اكتشاف علاقة واضحة بين الاسم والشخصيات والاحداث السردية، مما جعلني أحصي كل العبارات التي ترد فيها كلمة انامل او إصبع وتدل على الربح والغنى فكانت "انامل هامة" التي ترد في الرواية مرتين جزءا من هذا الاحصاء! وهناك موقع آخر تذكر فيه "الاصابع" وكذلك "رابحة" عشيقة الجنرال العسكري المتقاعد "شوكت طه"  "كانت تصعد على ظهره عشيقته "رابحة" وهو عار تماما وهي تصيح أحرن يا جنرالي الجميل.. يا حماري الودود.. احرن كي السعك بالسوط، وهو يرفس برجله وينهق بأعلى صوته واذا ما توقفت أرسلت "أصبعها" إلى مؤخرته وأدارته وهو ينهق ويعفط وينبح"

رحلة الهبوط الى القاع

لا يوجد قرار للقاع في العراق، في تلك المرحلة خاصة لشخصيات تتعامل بالآثار وتعيش خطورة حياة مافيات الاثار المحلية والاقليمية وحتى الدولية! تتزامن رحلة السقوط للبطل يوسف بن صليو بعد ان أصبح من اصحاب الاملاك وملك تجارة الطحين وله علاقات واسعة مع رجال السلطة والمخابرات والأمن، ويحاول يوسف استغلال وضع الاحتلال وعمليات نهب المتحف الوطني ليغري الناهبين ويشتري منهم ما سرقوه! تتزامن رحلة الهبوط مع ليلة سقوط بغداد واحتلالها من قبل الامريكان "في اليوم الحادي والعشرين من الحرب شوهدت اولى الدبابات الأمريكية تقف على جسر الجمهورية وهي دلالة قاطعة على انهيار السلطة وتلاشي رجالاتها فهرعت الناس إلى الشوارع هذا فرح وذاك مذهول وآخر يهتف ضد النظام، والناهبون يتزاحمون على أبواب المؤسسات والدوائر والمخازن والبنوك وتماثيل الرئيس يقتلعونها من جذورها ويحرقون صوره المنتشرة في كل مكان .."، وتعود بقوة ظاهرة الطمع عند يوسف ليرجع الى قرية الغافية لاستخراج تمثال أورنمو بعد ان تم اغراؤه بوجود مشتر يدفع مبلغا خياليا، يستخرج التمثال بعد عناء ويأتيه خبر خطف وقتل ابنه جاسر احب اولاده اليه وفي مشهد دموي يقتل فيه جميع من تعامل مع التمثال بضمنه يوسف بن صليو.

"اقترب هافال من جثة مروان ورأى بقربه التمثال تناوله فأعطاه لرحمون اليهودي الذي كان يجلس على المقعد الخلفي فلاحت بشائر الفرح على وجهه عندما مد يده وأخرج التمثال تفحصه جيدا وقال: آه يا أورنمو أراك حزينا يا صديقي ثم أعاده إلى موضعه ونظر إلى كاكه هافال.. فوجه له رفسة شديدة على بطنه حتى أسقطه أرضا، وأمر السائق أن يتوجه إلى قاعدة الأمام علي الجوية".

عرض مقالات: