من الملاحظات المهمة جدا التي تميز النواب إبداعيا وسلوكيا عن باقي الشعراء العراقيين، هو أن جميع الشعراء الذين غادروا العراق لأسباب مختلفة منذ بداية السبعينيات صار انشغالهم بقضايا أخرى لم يعد فيها الإنسان العراقي ونكباته واندحاراته التي لا تنتهي هي القضية المتسيدة والطاغية في إبداعهم. بدأت ملامح الإنسان العراقي البسيط، خصوصا من الفلاحين، تشحب تدريجيا في نصوصهم بمرور السنوات، بخلاف النواب الذي كان اهتمامه بشعبه يلتهب وتشتد جذوته كلما مرت السنون وادلهمت الخطوب وبعدت الشقة وازدادت وحشة طريق الحق العراقي لقلة سالكيه (لاحظ أن قصائد مثل "حچام البريس" و"حسن الشموس" والتي كتبها الشاعر في منفاه هي أشد إصرارا وضراوة في الانتصار للإنسان العراقي من قصائد ديوانه للريل وحمد التي سبقتها تاريخيا رغم أنها لا تقل عنها فنيا). ليس هذا حسب بل إن تفصيلات الحياة اليومية العراقية، خصوصا في الأرياف والأهوار، ومفرداتها التفصيلية المتعلقة بطقوس أهلها وعاداتهم وملابسهم وبنادقهم ومشاحيفهم، وطبائع تربتها وطعم مياهها وأصناف نباتاتها وأنواع ثمارها وحركة طيورها...  والأهم قمحها وخبز تنورها، كانت حاضرة في نصوصه بصورة مؤثرة اعتمادا على ذاكرة عجيبة لا تختزن أدق التفصيلات وأبسط الحوادث التي غطتها طبقات من غبار عقود الزمان الذي لا يرحم فحسب، بل تستدعيها بسرعة وكأنها مثبتة في ملف يراجعه مظفر ويعيد تنظيم أوراقه ويمسح عنه غبار النسيان المعادي يوميا، بل كل لحظة - وبالنسبة لي، لم يثبت هذا شعريا في نصوصه حسب، بل من خلال لقاءات عديدة كنت أتعمد خلالها استدراج المبدع للتأكد من رصيد ذاكرته وكشف مخزونها وملاحظة سرعة استدعائه محتوياتها -. وكانت أمي الحكيمة تقول: (من يبتعد عن التنور عليه أن يقبل بالصمّون). لكن مظفر النواب هو " الذي حمل لهيب" تنور الأم في أعماقه ليس كي يقيه برودة المنافي وصقيعها وشرور تقلبات ولاءاتها السياسية والوطنية، ولكن كمصدر خلق وحيد تنضج على ألسنته أرغفته الشعرية لتأتي عراقية، روحا وطعما؛ ساخنة وشهية وأصيلة وذات رائحة أمومية لا تخطئها حاسة شم الروح العراقية. إن اللاشعور يشم. وهذه عملية تحرق أعصاب الوجود الفردي وتفتك بالصحة الجسدية والنفسية وتقصّر الأعمار. ولكن هذا الإصرار المثابر الذي لا يساوم ولا يتصالح مع ضغوط الحياة المختلفة رغم مراراتها، يعكس في الوقت نفسه، سمة ذات معان فائقة في المنجز النوابي وهي سمة التفاؤلية. فالنواب لم يعلن في أي نص من نصوصه العامية انه نفض يديه من المراهنة على إرادة الإنسان العراقي الجبار في كفاحه ضد قوى الاضطهاد والاستغلال والقمع. مظفر يؤمن بثبات لا يتزعزع أن شمسا جديدة ستشرق على الشعب العراقي المعذب؛ وإذا جاز لي الاستنتاج التالي أقول: إن قصائد النواب في ديوانه الأول للريل وحمد كانت استقبالية للمعاناة في معظمها وتوعّدية في فعلها، في حين أن حچام وحسن الشموس وغيرها من نصوصه التي أعقبت الديوان كانت قصائد عزم وفعل إنقاذي عملي ومباشر. وظل النواب على رهانه المقدس رغم بحار الظلمات المرعبة التي تحيط بشعبه من كل جانب ورغم حوافر الخيول الباطشة التي تردس على صدره منذ آلاف السنين. ومن الأقوال المأثورة " أن المرأة التي تغازل بملامحها ليست فاضلة، والرجل الذي يغازل بمعرفته ليس شريفا "، والنواب لم يغازل بشعره أحدا غير الإنسان العراقي. ومع النواب يمكننا القول بثقة إن مرحلة " البطولة الشعبية " في الأدب العراقي قد بدأت، ليس في شقه العامي فقط، ولا في شقه الفصيح المكمل، ولكن في الثقافة العراقية بشكل عام - راجع دراستنا السابقة عن قصيدة " حچام البريس " -. لم تكن في الثقافة العراقية مطولات شعرية ذات طابع ملحمي تتحدث عن الأبطال الشعبيين رغم طوابير هؤلاء الأبطال التي لم تنقطع منذ فجر خليقة العراق. مع النواب أصبح العامة البسطاء من جمهور مظفر - وهم أشقاء روحه - "يروون" و "يحكون" حكايات لعيبي وسعود وصويحب وجابر و حچام البريس وحسين / حسن الشموس وغيرهم. يحكونها فتزرع في نفوسهم الممزقة بذرة - لاحظ أن أغلب مفرداتنا، ومن حيث لا ندري، مرتبطة بالأرض - الأم : اللغة نتاج أمومي -. والأمر الأكثر خطورة في هذا الإطار هو أن النواب قد مرّر تحت أغطية هذا الموقف حينا وأعلن صراحة أحيانا البطولة الشعبية الأنثوية من خلال المرأة - الأم - الحبيبة التي لم يخصص لها الشعراء السابقون قصيدة واحدة كاملة مثلا، يتعرضون فيها لدورها البطولي المقاوم ووظيفتها الإنقاذية المتأصلة التي التقطها النواب بوعيه الحاد وبولائه الأمومي المرتكز على الظل الأنثوي الخلاق في أعماق شخصيته، "anima" حسب تعريف " كارل غوستاف يونغ" عالم النفس الشهير، هذا الظل هو المسؤول عن الإبداع من ناحية، وعن تجليات الأنموذج الأنثوي في نصوص المبدع من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي تعرضنا له تفصيليا في دراستنا "حالة ما بعد الحب" السابقة. المهم أن مراهنة النواب على الإنسان العراقي استمرت حتى يومنا هذا. وعند هذه النقطة الشائكة قد يقع المتلقي في نوع من الإرباك والتشوش، مصدره التساؤلات المشروعة التي سيثيرها هذا الموقف في ذهنه وهي: كيف يتفاءل المبدع ويرسم نهايات ظافرة لقصائده وشعبه يسحق يوما بعد يوم وتهدر كرامته وتنهب ثرواته؟ هل يعاني هذا المبدع من فصام بين ما يشاهده ويتلمسه من خراب فعلي يمحق شعبه ويحطم مستقبله على أرض الواقع وبين ما يرسمه على الورق من صور شعرية متخيلة لا أساس لها في الحياة الواقعية اليومية؟ ألا تساهم نصوص مثل هذه في إشاعة الروح التخديرية التي تطوّع إرادة الناس الذين لن يروا من خلالها حقيقة محنتهم العارية المريرة التي ينبغي عليهم التصدي لها؟ إن الجواب على هذه التساؤلات يضعنا في صلب الطبيعة التفاؤلية لمنجز النواب التي تحدثنا عنها والتي ستنقلنا إلى ما طرحناه في بداية دراستنا عن رؤياه لمهمة الغبطة الكونية التي يضطلع بها الشعر وعن القصيدة كعيد كوني. إن مزاج النواب مزاج منفتح ينفعل بحركة الطبيعة والإنسان ويستجيب لها ويؤمن أنها حركة حياة لا تهدأ ولا يمكن أن تندحر أمام هجمات الموت - رغم أن الأخير هو الحقيقة الأكثر بقاء ورسوخا -، وهذا المزاج هو الذي يشيع في أجواء القصيدة النوابية فيسمها بالإيجابية والإنسانية الخلاقة من ناحية، وبالحركية الصراعية (الدينامية) من ناحية أخرى. فالحياة حركة ناجمة عن صراع أضداد، حركة لا تنتهي إلا بإعلان موت الحياة نفسها. في قصيدة مظفر تتحرك كل مفردات الحياة وتتصارع، تتجاذب وتتنافر لكنها لا يكره بعضها بعضا؛ إنها تتصارع بحب لا يشوه أواصره الحميمة صخب الصراع. وهذا الموقف هو في جوهره مظهر من مظاهر سلوك الحضارة الأمومية. وقصيدته هي " كرنفال" أهم نتائجه هو أنه يشيع البهجة في نفوسنا حتى لو كانت محملة بالآلام والعذابات والثكل. وتتجلى هذه المميزات في الجانبين : الهم العام المتعلق بفاجعات الإنسان العراقي المقهور والذي جسده في قصائده الإنسانية - وهذا الوصف كما قلت أدق من وصف " قصائده السياسية " وأكثر صدقا لأن النواب لا يكتب عن السياسة والحكومات والإقطاع بالمعنى الضيق ولكن عن الإنسانية العراقية المسحوقة المهانة وآمالها في الخلاص والانعتاق -، والهم الفردي الذي سطره في نصوصه الوجدانية التي عالجت موضوعة الحب والعشق والموقف المركب من "موضوع الحب" وصلة ذلك بنرجسية المبدع ومكبوتات لاشعوره، وفي هذا الجانب سنلمس فارقاً التفافياً مهما جدا في معالجة الهم الفردي عن الهم العام. وفي كلا المضمارين حقق النواب ابتكارات ريادية استثنائية وشديدة العمق والفرادة. ففي مجال الهم العام نلاحظ في أغلب القصائد البداية الاستهلالية التي تعبر عن التحدي وصلابة الإرادة المقاومة كما تجلّى ذلك في قصائد مثل: حچام البريس، حسن الشموس، مضايف هيل، مامش مايل، عشاير سعود، جد ازيرج وغيرها، وقد نقلنا بعض تلك الاستهلالات في دراستنا السابقة "مظفر النواب .. وحالة ما بعد الحب". والملاحظ أن كل تلك الاستهلالات التي ذكرناها تقوم على مفردة "الدم" التي لم تعد موجودة في مفتتحات النصوص التي كتبت بعد ديوان "للريل وحمد"، وأعتقد أن عنف المرحلة الصدامية القاسية التي عاشها الشاعر وشعبه وحزبه، والحركة الوطنية في العراق عموما، في عقدي الخمسينيات والستينيات التي كتب خلالها قصائد الديوان والمرحلة العمرية المحتدمة المليئة بالمواجهات والاعتقالات قد جعلت هذه المفردة مهيمنة في افتتاحيات قصائد الديوان عنها في القصائد المتأخرة. ومع ذلك من المهم التذكير بأن وجود هذه المفردة التي ترمز للعدوان والموت لم يجعل العنف النوابي وحشيا أو دمويا مثل العنف الذي طبع قصائد الجواهري وجيل الحداثة السيابية الذي خرج من معطفه. في قصيدة "عشاير سعود" يقول النواب في المقطع الأول:

هذوله احنه.. سرجنه الدم ..

عله اصهيل الشگر يا سعود

خلينه زهر النجوم ..

من جدح الحوافر سود

تتجادح اعيون الخيل ..

وعيون الزلم بارود

وياخذنه الرسن للشمس ..

من زود الفرح ونزود

حيث تجد أولا أن الشاعر لا يوغل في توليد مفردات الموت والدمار المرتبطة بإيحاءات الدم في الأبيات اللاحقة مثلما كان يفعل الجواهري والسياب، بل هو يلطّف تأثيرها ويضعفه من خلال الصورة التجريدية التي يتم فيها تنصيب الدم على صهيل الخيول الشقراء .. حيث يقع المادي الملموس (وهو المائع أصلا لأنه سائل) هو الدم على أرضية صوتية هشة رغم حدتها وتطاولها، وتتضاعف القيمة الجمالية لهذا التركيب من خلال المشهد اللوني الذهني للوحة حيث اجتماع اللون الذهبي باللون الأحمر. في الوقت الذي ينتقل فيه السياب من الدم إلى الجثث والديدان والقيح واللحم المتفسخ .. إلخ. ولو تابعنا بقية مفردات الخطاب فسنجد مكونات السماء البهية كالنجوم الزاهرة والشمس والانفعالات السارة كالفرح. صحيح أن الشاعر قد قدم صورة شديدة المبالغة - طبعا المبالغة الشعرية "الصادقة" في تعبيرها عن شراسة الحماسة المدوية، يمكن أن نضع مقولة " أعذب الشعر أكذبه في صورتها الأكثر صحة وهي " أكذب الشعر أعذبه " - حين جعل النجوم تنصبغ باللون الأسود بسبب الشرار المنطلق إلى السماوات القصية من وقع حوافر الخيول الغاضبة - ولاحظ أن الجدح الناري الأصفر يحرق وجوه النجوم الزاهرة ويجعلها سوداء - إلا أن المهم دائما هو الصورة الكلية (الجشطلت) النهائية التي يصعّدها الشاعر لا لنصل مرحلة التقطيع والتقتيل والفناء، ولكن لنبلغ السمو بالحالة الظافرة نحو عين الشمس محلّقين على موجات الفرح المتزايدة في حركة ختامية مليئة بالغبطة العارمة. ولو تأملنا هذا المقطع الافتتاحي من جديد لوجدنا أن الدم بعد حركة "الرسن" الذي قاد الموكب نحو الشمس هو رمز للمحاربين الذين استووا على سروج خيولهم، فهو ليس دم الضحايا أو المقتولين بل هو العزيمة العارمة التي يتحلى بها الفرسان. وقد استخدم الشاعر المصدر "جَدْح" للحوافر لأنه "تكثيري" بطبيعته، واستخدم الفعل "تتجادح" لاعين الخيل لملاحقة حركتها الراصدة المتقافزة خلق موازاة بين اعين الخيل التي تتقادح واعين فرسانها التي صارت بارودا يوشك على الانفجار في الجو الناري المشتعل. وحتى عندما تصل الحفزة العنيفة أشد مستوياتها في المقطع الخامس فسنجد أن المحصلة الأخيرة للخطاب هو أنه خطاب حياة ونماء وليس دعوة موت وخراب. فالشاعر يقابل بين الخطابين بصورة تعكس لا دموية المتكلم ومسالمته ويجعل فعله فعلا دفاعيا من أجل الحياة ومن أجل دفع الأذى عن الذات.