"أشياء صغيرة يمكنها أن تترك في قلبه شعورا بالفقدان، قد يعيش معه طويلا، مثلا: ان يصادف احد اصدقائه القدامى في مكان ما لم يخطط للذهاب إليه، فيبدو له شخصا غريبا مثل وجه عابر في صورة متخيلة، حتى يقرر أحيانا التخلي عن الذكريات التي جمعتهما معا في أوقات بعيدة مهما بدت ثابتة ولا تسقط مثل رسوخ دون اختبار، أحيانا ينتابه شعور انه يعيش بذاكرة ليست له او بقلب شخص مات وهو يحبس الكثير من الغضب. هو الآن يعيش لحظات فقدان أناس معنيين في حياته وحسب، ويملأه شعور بأسى عميق لا ينفع معه النسيان".

في المجموعة القصصية "غيمة شيكاغو" للقاص المغترب حيدر عودة يمكن لمس البعد الأوتوبيوغرافي – السيري الذاتي - حين يسرد القاص سيرته الكتابية بعد أن نلتمس تداخلا سرديا وبأصوات متعددة في نصوص أخرى خروجه من سلطته ككاتب. تعيدنا هذه القصص القصيرة إلى عالم أحياء الهوامش من خلال سرد ممتع في حيوات متنوعة هي جزء من تداخل الذاكرة بالحاضر والتي تحاول أن تؤثر في أفق توقع القارئ وتفتتح بتنويه للسارد بأنها محض حكايات قصها على مسامعه سائقو سيارات الأجرة في مدينة "الكهون" شرق مقاطعة "سان دييغو: الأمريكية وهم الذين منحوه حكاياتهم وحزنهم..

"لا يعرف سبب تعكر مزاحه كلما خرج من شقته في منطقة الكهون متوجها الى عمله، أمضى قرابة عشر سنوات سائق أجرة في شركة النجمة الزرقاء رغم محاولاته العديدة للبحث عن عمل آخر، لكنه يفشل ويعود ثانية الى الشركة نفسها. يفكر في أيامه وماضيه وما يحدث له كل يوم دون تغيير ملحوظ. ثمة أشياء تختفي من حوله وأخرى تحل محلها، مثلما يهدم مطعم او فندق ليحل محله مطعم آخر ومتجر ما مع ذلك تبقى الأمكنة ولا تختفي فهي جزء من وجود واحد ممتد....".

الحقيقة إن إغراء القارئ بقراءة هذه النصوص، خاصة وأن هناك تطابقا في الأسماء والأمكنة، هذا التطابق الذي يكون قد لجأ إليه الكاتب لتعزيز هذا الإيهام عند المتلقي. ولا يكتفي الكاتب بهذا الأسلوب في تقديم نصوصه بل نجده يستخدم في أسلوب سرده طرائق تقليدية من خلال تركيزه الواضح على سرد التفاصيل الخاصة بالمكان أو الأحداث والشخصيات، ومن خلال استخدام ضمائر الغائب والمتكلم والذي يكون فيه الخطاب موجها مباشرة إلى القارئ، وبقدر ما يضفي ذلك من حميمية على تلك العلاقة التفاعلية، فإنه يجعل شخصية السارد تهيمن على السرد الحكائي وتجعله حاضرا في كل مكان، ما يوحي وكأنه سرد لسيرة ذاتية وهو ما يدعى التحفيز الواقعي، سواء من خلال استخدام أسماء الأصدقاء وأسماء الأماكن هي محاولة لهذا التفاعل والحميمية.

"في أوقات الانتظار الطويل لنداء طلبات سيارات الأجرة، يتجمع السائقون في زاوية تحت سلم مشاة كونكريتي تحيطه بعض أزهار منقار الطير، وهي تودع بريق ألوانها مع نهاية الربيع، يجلسون على حافة الرصيف مثل مشاهدي عروض الهواء الطلق مشدودين لصوته وهو يبدو كأحد أبطال الأفلام يأخذهم في كل مرة الى مكان مختلف وكما لم يعيشوه، لم تكن حكايته معلقة في سماء شيكاغو فحسب، بل كان يجبرها ان تهبط وتمطر على مدينة الكهون الصغيرة والمحاصرة بجبال أربعة شيكاغو الستينات ليست فقط في افلام العصابات والجريمة بل أنها في حكايات جورج أيضا".

من عتبة النص نكتشف إثارة فضول التلصص على تلك النصوص وهي تثير دهشة القارئ، وفضوله، وألمه، وتعاطفه مع شخص ساردها وهو يعاني صراعاً وجودياً يتعلق بالذاكرة "ذاكرة الزمن الجميل للمغترب"، هذا الانتقال المفاجئ الى أمكنة من زمن الإقصاء "شيكاغو" هذه المدينة "الحلم" ليست مجرد مكان بل المبتغى لكل حالم وهذا كشف اولي يجعلنا نتوقف عند العنوان للوهلة الأولى ونفهم أبعاده السوسيولوجية، فكما نكتشف مباشرة ومن القراءة الأولى للعنوان أن ثمة "أمكنة حلمية" وامكنة في الذاكرة، وبين هذا وذاك هناك منطقة اقصائية أو مجتمعاً خاصا بفئة مسماة المكان الإقصائي، هذه الأمكنة تفرض قوانينها على من يسكنها لا سيما "سائق التاكسي" وهو يطوف ليل نهار في أزقتها ويكتشف مغاليقها ليلا ويدونها سرديا فجرا، كشف سردي ومن خلال حوار لغته بسيطة يدور بينه ومن راح يوصلهم الى أمكنتهم الخاصة والغارقة بالخصوصية عبر سرد بسيط عابر يتعامل معهم، تقنيات سردية وبطريقة مسلية، فتتعدد تقنية السرد من قصة إلى أخرى وكأننا ننتقل معه وبسيارته الأجرة، وتدخلنا أحياناً أمكنة متخيلة، كاميرا كما لو أنها تلتقط صوراً فوتوغرافية من البيئة العامة الذهنية والسوسيولوجية، لتضفي على تلك القصص بعداً درامياً عميقاً.

"منذ ثلاثة شهور وهو يستيقظ مبكرا، بعد ان عمل في شركة لنقل مرضى الحالات الخاصة، يتوجه بسيارته لنقلهم من أماكن سكن متفرقة الى المستشفيات او العيادات المتخصصة بالإضافة الى رحلة ساحل لاهويا شمال المدينة لمرة واحدة في الأسبوع بينما بقية الأيام ينشغل معهم في مراجعات وعلاجات هنا وهناك . يبدأ بالسيد وليد مسعود الذي وصل الى المدينة منذ عام ويقيم في سكن خاص بكبار السن في مدينة الكهون، يتحدث الرجل ببطء وينصت بعيون مفتوحة تنغلق بين الحين والآخر".

إذن نحن أمام نصوص في مجملها تبدو الأحداث فيها مألوفة ولكنها غريبة جغرافيا والتي تحكي بتداخل صوتي هي قصص الماضي من الأصدقاء وفراقهم القسري وأمكنة ربما اندرست ولكنها مازالت ماثلة في ذهنه، علائق حلمية اكتشفها ساردها جراء الهوس الاغترابي ويمكن أن تكون قد وقعت في حياة ساردها فعلا او تخيلا في مدن عاشها يوميا والتلصص عليها من ظواهر غرائبية من الاقتراب ونقيضها الإقصاء، والفوارق المصطنعة الاجتماعية والتي لا تعرف الهدوء وإنما الصخب حتى في حالات الليل والسكون الشاعري حين يستفحل الحنين فلا يرى فيه إلا إثباتاً لذاته، ونرجسيته يذوب كل ما هو عالق وجميل فيهرب إلى الذاكرة والحلم معا.

"أحيانا يشعر أن حياته ليست أكثر من تجميع لمشاهد من أفلام مختلفة أو ان ما يمر به يتشابه مع مشاهد أفلام قد شاهدها فكر بذلك وهو ينزل لوحة جدول رحلاته اليومية من على الجدار ويضعها مع كتبه في صناديق من البلاستيك بعد ان طلب منه صاحب الشقة الرحيل لحاجته لها. وحين أكمل جمع أغراضه كلها جلس على كرسي هزاز كان آخر ما اشتراه من رحلة السعادة والدهشة ليلتقط أنفاسه".

وأخيرا أقول : المجموعة تميزت بلغة شفافة وعميقة، والظاهر أن القاص يولي عناية كافية للغته الصحفية والذي يخدم لعبة الكتابة وينشر البهاء ويحفر في الدلالات ويخلق متعة الإبهار والإمتاع والتشويق في نفس القارئ، هذه النصوص هي اختزال من التناقضات التي يعيشها المجتمع من خلال أحداث واقعية أو تلامس الواقع، حاول المؤلف الإفصاح عنها وانتقادها أحيانا، الأحداث التي تجسد إلى حد ما واقع الحياة اليومية داخل المجتمع الامريكي، وأحيانا أخرى عن طريق التخفي في الأحداث البارزة التي تكشف وتفصح عن نفسها عن طريق اقتباس التناقض والتباين بين الحقيقة والمظهر وتقديمها في قوالب سردية ممتعة.

أما بخصوص شخصية جولات سائق التكسي فهي مرآة للكشف والتحري لتقلبات مجتمعية والتحولات اليومية لحيوات تعيش صراعا ماديا بين الحاجة العاطفية وأخلاقيات الواقع الاجتماعي المقيت، هذا الانعكاس هو تمظهر ثقافي عولمي طرأ على سلوك وأفعال شخصياتها ظلت ترزح تحت الذكرى وحلمها المفقود ليس إلا.