من العجب الآن، أن أرى قلاع ذلك السحر تتهاوى، وأن فصوله النضرة تغرب بسكون، ثم تستيقظ مثل طفل حاصرته رغبة الرضاع. كان الأحرى بي ألّا أتمادى في الاطمئنان كثيرا، كان حمقاً مني أن أتمسك به. التمسك به وهم. كفاني توانيا.

لكنني سأمنحها نبضا مترعاً بالفضول، لعلها تُفسِّر لي ما جنيته من ذلك الاتكاء، دون التطرق الى فهمه. لم يعد الأمر أكثر من جيرة حزينة، منسوبة ببهاء، لنوبات التذكر.

في فجر موت جيرتنا، كنتُ أراهن على ذلك الوهم، أصر على ألا يتوقف خداعه. يا لحزني، فجأة اكتشفت أننا على وشك الفراق، ها أنت وأسرتك باتجاه مطار بغداد، بلا أمتعة، بلا أثاث. كل شيء بيع بسعر التراب، تلاقفه باعة "العنده عتيگ للبيع"، فهاجرت يا صاحبي، أنت وأسرتك بخفي حنين!

 بكيتُ يا جاري عليك، بكيت بحرقة على اهدارنا عمراً عراقياً ضارباً في التاريخ. لذتُ بالدموع، لم أذق طعم الجيرة بعدكم، ها أنا أرتبك. لم أر طيلة فصول تلك العشرة، غير انتشار زهور التواصل وشجيرات الآلفة وبراعم أجمل الحوارات.

في ليلة الرحيل، فاحت روائح ورود القرنفل والكاردينيا والتوليب. نبضت ببراعم شهية، بمشاهد وحكايات، وجلسات سمر، كأنها كانت تنتظر الختام. هناك فصل طارئ بدأ ينمو بيننا، فصلُ لم يدركه الآخرون. اكتفت العيون بكشف إشارة واهنة منه، ثم تركته كعالم هلامي غير مبتوت فيه، كأنها أوكلت مهمة الفرز للفراق.. ضاقت بنا ألفتنا يا جاري.. الألفة التي نمت بيننا شاخت، جفت منابع اشتهاءاتها. ما عادت قادرة على حمايتنا من نيران الفراق. جيرتنا الآن عجوز في الثمانين. تتلو حكمتها الجائرة كل يوم، يُذكِّركَ بقسوة هجرتك، وبيدي المكتوفتين، وبعجزي عن حمايتك، وبالتفرج المذل على هجرتك، في ذلك الفجر الحزين.

وداعا  يا جاري المسيحي.

في الساعة الثالثة فجراً سمعت طرقاً على الباب، طرقا مصحوبا بالنحيب. يا الهي! حان وقت الفراق. هناك توافق لا شعوري يجمعنا، يرمينا في البكاء. ينسى وجهك ملامحه المسيحية، ويترك قلبي ملامحه السومرية، يقترب وجهانا من حمرة الغروب، ملمح كهولة الألفة، ودلالة الهجرة الحزينة الى أمريكا، في ذلك الفجر الحزين.

جرفتني سيول الفراق لمسافة تزيد عن ارتباكي. استيقظتُ من نومي صارخا، وجدتَّني مرتبكا. الطرق العنيف على الباب أخذ يتصاعد. كأنه يريد أن ينقش في الذاكرة لحظة الوداع. الندبة الأشد سواداً في بياض بابك.

لم أعد أقوى على رؤية "سانتا كلوز" الأحمر بعدكم. لحيته البيضاء أمست حزينة، وحذاؤه الأسود فقد لمعته، ومعطفه الأحمر الكبير غدا بالياً

لم يعد "بابا نويل" يتجول بين منزل وآخر، مانحاً أطفال الحي هداياه، حتى عربته الجليدية بيعت في مزاد همجي، والحيوانات الثماني التي كانت تجرها هربت. "أنت مسيحي، مسيحي، لا مكان لك هنا".

يا لبؤسهم!

جاري.. يا أيها المسيحي الوديع. لا أريد لذكريات الجيرة أن تتبعثر. كن حيّا لأبقى متواجداً على هامش وداعتك. ستميتني حتما بغيابك.

ولكن كم يلزمنا الآن ليغفر كل منا للآخر؟ تعال نرثي الجيرة معا. ونبقى عند عتبة الفراق. نتذكر كيف كنا نصنع شجرة الميلاد، والمغارة، والزينة، و"سنة مباركة وعيد مجيد" ووو....؟

دعنا نفترق الآن. سأذهب الى أمس كان يجمعنا ألفة فيه. وتمسك أنت بحنين العراق، بحلم قد يعيد لنا جيرتنا القتيلة، ألفة عشرين عاماً في عراق "قديم"!

أقول:"قد..."، وأنتظرك.