من داخل سيارة أجرة نوع "كيا"، يبدو المشهد العراقي مصغراً، يختزل قصصا وفواجع كثيرة، ويدفع بقطع حطامه الى الساحل، كأنه وجد في ذلك الاختزال معزوفة متحركة من صنعه، ترك قيادة عزفها للنساء العجائز، نساء يرتدين الثياب السوداء طوال أعمارهن، لا يظهر منها عدا وجوه نحيفة مليئة بأخاديد الفواجع، وندب الدهر.

كل امرأة من هذا العيار تبدو جاهزة للنواح، النواح وليس البكاء، واياك أن تطمئن لصمتها وهدوئها، وحذارِ من الرهان على احتفاظها بعزلتها بين الراكبين. يكفي أن يشغل السائق "لطمية" أو أغنية ريفية حزينة، وسترى شروق الأحزان من مغرب الفواجع، وسيذهلك اتصالها السريع مع اللطم والغناء الموجع والآهات. كأنها كانت تنتظر بشغف ذلك النوع من الحفر، الحفر الذاهب باتجاه نافذة سمحة ظهرت من داخل تلك العتمة، وكشفت عن عمق متأصل للحزن، عمق غائر بلا حدود، عدا تلك النافذة التي بدت هي الأخرى بلا حدود أيضا!

فتح السائق المذياع بعد أن سئم من شدة الزحام، فانطلق صوت "داخل حسن". بحة صوت لن تتكرر، وعذرية حياة تمزقت، حياة فطرية في طورها الأول، جمعت العشق مع الحزن وأنتجت أعذب الكلمات والألحان.

امتزجت آهات العجائز مع البحة سريعا، ثم سحبت حزنا موجوعا من قلوب بلا أغلفة، سرعان ما ارتدى أصوات النحيب والنعي والرثاء الغافي على الشفاه، بانتظار زقزقة العصافير.

استعرضت العجوز النائحة الأولى مهاراتها المشهودة في اختيار الأشعار الحزينة النافذة إلى قلوب الراكبين. قرأتها بأداء متقن، بإحساس عالٍ يلائم ترددات خامة صوتها المميزة التي توحي بأنها حزمة ألحان وآهات مؤثِرة، تخرج من أعماق قلبها المكتظ بالفقدان، لتبث الشجن العراقي الملازم لفواجع الدهر.

أنشَدَت العجوز أبيات نعي متفرقة، بصوت عذب حزين، جعل النسوة الجالسات في "خانة أم الشواذي" يلطمن على رؤوسهن وجباههن وأفخاذهن، بينما انهار بعضهن، خصوصا تلك النسوة اللائي فقدن أبناءهن في انفجارات السيارات المفخخة أو أعوام القتل على الهوية الحمراء، فلطمن على خدودهن، وعلى صدورهن الضامرات.

ظلت العجوز تهز برأسها وتنشد:"

خويه أرد أعاتبكم يالطياب

من جور گلبي وعُظم المصاب

ذاب الگلب، من الهضم ذاب

والراس، من امصابكم شاب..

تبعت النعش واركض وراكم

واچلّب بثياب الخذاكم..

ثاري الاخو عازته عازه

اريدن شوفته وگلبي توازه

بيت وصُفَه من الزلم خالي

توني اعرفت عزي ودلالي..

أويلاه عل مارجع داره..

ثاري الاخو يا ناس خيمه

ثاري الاخو ينبع محنه

يا بويه تِفَشَّگْ راس گلبي".

المرأة النحيفة التي كانت تجلس قبالتها بدت هي الأخرى "ملايّة" بارعة، تمتهن بدراية إبكاء النساء اللائي كانت دموعهن متأهبة، تنتظر لمسة شجن لا غير، فهي صاحبة صوت رنّان، يتميز بطبقاته العالية حادة النغم والنبرات، وذاتِ نكهةٍ ريفيةٍ محببة، تأسر الألباب، وكانت الأشعار والأبوذيات التي تختارها مليئة بالحزن والشجن والخيال، تحرث العواطف المتأججة، لتشعل نيران الفجيعة بقلوب نسوةٍ باحثاتٍ عن تفريغ أحزانهن ومواجعهن المتلاحقة، غير آبهات ببقية الراكبين.

ناحت المرأة بصوت شجي منقوش في ذاكرة النسوة، فجعلت الكثير منهن يلطمن على صدورهن بقسوة:"

اشلونك يبعد اختك اشلونك

بعدك حلو لو خرب لونك؟

حار الرمل بدَّل ارسومك..

تجيني.. لا كون تسمعني وتجيني..

انا من جور دهري ابد ما ون

اون للسار ضعنه بليل ماون

وين اهلچ غدوا يا دار ماون

أنادي ولا جواب يرد عليه..

افراكهم حرم منامي

ردت الولي ايْسيِّر عليه

افراكهم خلف خفيه

ويتشابچن ايده بديه".

لم يجرأ أحد من الرجال على مواساتهن، ولم يبادر أي منهم الى خدش المشهد، كأنهم كانوا أيضاً بحاجة الى ذلك النوع من الغناء، غناء نقي بلا رتوش، يدغدغ أحزانهم، ويلامس شغاف قلوبهم، بريشة عجائز متأهبات للنواح والألم واللطم، ولا تحتاج أي منهن سوى الى بحة عذبة من حنجرة داخل حسن!