ماذا يعرض الناس في سوق المدينة؟ لم يكن هذا سؤالي، ولا المدينة التي يعرض الناس فيها بضاعتهم مدينتي؟ انما كان السؤال عن مدينة يونانية يتجول فيها سقراط كل يوم، والناس  الذين يسألهم كانوا يونانيين، فكان يسأل الخباز والركاع والعامل والبائع، عن مهنهم وما يدر عليهم منها، وهل ما زالوا يمارسونها يوميًا؟ وكانت الأجوبة مختلفة، يمارسونها ولكنهم في اليوم التالي يتعاملون كما لو كانوا يمارسونها لأول مرة. بدليل أن محصولهم يزداد وتقنيتهم تتطور. قد يبدو السؤال ساذجًا، إذا ما كررته يوميًا، ولكن القيمة الفلسفية لسقراط، هي أنه كان يسأل، ثم يعيد السؤال يوميا، بينما الإجابة تتغير تبعا لتغير الأيام. ولذلك انفتحت المدينة اليونانية على سؤال فلسفي مزري بينما حياتها تتطور، لأن إجابة اليوم ستكون مختلفة عن إجابة الغد، فالزمن يتحرك، وبالتالي  تتحرك المدينة. عندما تسلك الناس سابلة المدينة ذاهبة لأعمالها يكون لديها أجوبة جديدة عن سؤال الأمس، ويكون المحصول: ثراء في العقول ونضجًا في الأفكار، وتطورا في المعاني بالرغم من هيمنة السلطة الدينية في اليونان، هكذا يصبح بمقدور الناس أن تشتري ما تحتاجه دون تكديس، وأن تواصل عملها دون خوف من العطالة، وأن يواصل تلاميذ سقراط لعبة سؤاله الفلسفي، وحين أغضب سؤاله السلطات الدينية حكمت عليه بالإعدام، فتجرع السم ايمانا ببقاء سؤاله قائما.. ثم يأتي بعد قرون غاليلو غاليلي ليعيد على كرادلة الكنسية، سؤال سقراط، أن حركة الأرض سؤال دائم بالرغم من أنكم  تؤمنون بالثبات.

في مدينتي العراقية، أصبح السؤال أوسع مدى، بينما بقي الجواب مبهمًا، لأن طرح السؤال يعني التفكير بالغد، وحكام مدينتي لا يفكرون بالغد، ولما لم يجد السائل جوابا يتحول السؤال إلى تظاهرة في ساحة التحرير، لتصبح ساحات المدن قرطاسًا يدون عليه سؤال الناس، بينما ينحسر جواب السلطة محميا في قلاعها ومتاريسها، وسلطتها، ومليشياتها، فمنذ عام 2003. والناس تسأل، ولا من جواب! من هنا اتخذ السؤال صيغة الممارسة الثقافية، وهي الاحتجاج معلنا بلافتة مكتوب فيها سؤال الناس. ولما لم تستجب السلطة بدأت الناس تفكر بتنويع السؤال، ليتسع خطابهم فيشمل الفئات الإجتماعية كلها، بما فيها تلك التي لا تعير لمحتوى السؤال  أهميته الفلسفية، هنا، ومن هذه النقطة بالذات، اتسعت المسافة بين سؤال الساحات، وجواب القلاع، حين اتخذ السؤال مشروعية التغيير الشامل، عندئذ ليس بمقدور السلطة ايقاف ألسنة السؤال الذي اصبح متنوعا وشاملا وباشكال تعبيرية جديدة، ويحمل في صياغاته تهكما وسخرية ومفارقة، فالأسئلة لم تعد سؤالا واحدا، وصيغة الطرح لم تعد سقراطية هادئة، ولما عجزت السلطات الدينية عن صياغة جواب  مناسب، لجأت الى عنف الصمت بديلأ، وطعّمت توجهها بمحسوبيات الأسر والقبائل والطوائف والرشى..  فنهر السؤال الذي يجري لن يتوقف، ففي مدينتي كل شيء يسير إلى الوراء، ويكون جوابهم مثل خطبهم تكرار لحدث حدث في دولة الخلافة الراشدية الأولى، وعليك أن تؤمن بجواب الحكاية، لا بفعل الممارسة الحديثة. ويبقى سؤال مدننا يتسع، والغد سيكون محملا بأكثر من سؤال.

عرض مقالات: