رحلة طويلة مع الشعر والحياة القاسية وملاحقات الأجهزة الأمنية بسبب مواقفه الثابتة في الزمن الصعب منذ بداياته الأولى في السبعينيات وحتى رحيله أو تغييبه الذي نضع امامه العديد من علامات الاستفهام والتعجب! أنه الشاعر عبد الحسن الشذر المولود في مدينة البصرة عام 1952 والذي عاش حياته مطارداً على طول الوقت ويحاول الإفلات من أجهزة الأمن لنشاطه الثقافي والسياسي. يختبئ في بيوت الأصدقاء من أبناء مدينته البصرة وأحياناً يختبئ في مشفى أو في مدرسة أو حانة أو خربة أو بستان أو ينام في الشارع كأي صعلوك ويسبب صداعا للأجهزة الحزبية والأمنية عبر قصائده.
لم يخفْ الشاعر رجالات الأمن وقد حاول مرات عديدة أن يبصق في وجوههم ويتوعدهم بمصير أسود لكن محبيه ينقذونه في اللحظات الأخيرة ويتم تهريبه وإخفائه عن الأنظار فينجو.
كان الشاعر أحد أبرز شعراء السبعينيات في مدينة البصرة ومن الشعراء القادرين على فرض سطوة القصيدة في المناسبات الوطنية وغيرها وهو شاعر جريء، وقد قرأ عام 1971 في مهرجان لمديرية تربية البصرة قصيدة أهداها لعبد الخالق محجوب الذي استشهد وهو سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، قرأ القصيدة والإهداء وسط دهشة الجميع، انه تحد وشجاعة نادرة في زمن التعسف والاضطهاد، وبمجرد أن يقرأ قصيدته تكون جماعة الاتحاد العام لطلبة العراق قد وجهت عيونها حول الشذر فتتم ملاحقته إلا أنه يفلت من قبضتهم، وإن لم يفلت يكون الضرب المبرح واللكمات قد أدمت وجهه وتجعله يترنح في شوارع البصرة وبالكاد يتمكن من المشي فيها مستنداً على الجدران.
في أواخر العقد السبعيني انتقل الشاعر الى بغداد وعاش فيها فترة من الزمن وعمل مع أصدقاء لكسب لقمة العيش، وحين عاد الى مدينته البصرة عرفتْ أجهزة الأمن بعودته فأرسلت له سيارة من سيارات الأمن وكانت في تلك الفترة من نوع "فيات جي أل" فدهسته في الشارع وقد حاول الشاعر ان ينهض من الضربة لكن سائق السيارة شاهده في المرآة وهو يحاول النهوض فرجعت المجموعة بسيارتها وتم دهسه مرة أخرى ثم هربوا، وعلى إثر هذا الحادث أصبح الشاعر معاقاً ويمشي على عكازة، لكنه كان دائم الشتم لنظامهم ولأجهزته القمعية وظل يكتب قصائده التي فقدت في أماكن متفرقة وحتى عام 1981 وأثناء الحرب مع ايران سمعنا ان الشاعر عبد الحسن الشذر قد مات! كيف وأين؟ لا أحد يعرف! وسُجل موته ضد مجهول وكضحية مغيبة من ضحايا الأجهزة الأمنية الحقيرة.
ظل الشاعر بالرغم من موته المؤلم علامة فارقة في الشعرية العراقية حيث قصائده تتفتح مثل الأزهار حين كانت تُقرأ في جلسات حميمية بمقاهي وحانات بغداد مثل وردة وسرجون الأكدي وغيرها لكن صوته الشعري المميز أين ما ذهب كان يترك أثراً واضحاً بين الأوساط الثقافية، ولعل الثقافات التي اطلع عليها وبخاصة الغربية جعلته شاعرا متفردا في جملته الشعرية التي يوظفها داخل كل قصيدة بمهارة وإتقان عاليين، فخياله العالي المسكون بهواجس الخوف والصعلكة والمطاردة والاعتقال لم ينسَ الخليج ونخيل البصرة ووفيقة التي احبها السياب من خلال شباكها وزنوج البصرة والصحراء وحركة السفن داخل شط العرب وتاريخ العراق القديم والحديث. في قصيدة للشاعر بعنوان "المغني بشار" تتسامى روحه مع القصيدة فيكّون مع بشار بن برد الرمز ثنائيا يستحضر فيه الماضي بمهارة وحرفية ويمسك بالحاضر من أذنيه ويفرك وجه الخوف. يقول:
اعقد يديكَ وراء ظهركْ
اعقد يديكَ وسرْ وراء النهر يتبعكَ البغاةْ
ماذا دهاكْ؟ ماذا؟ أأنت تقودني أم نحن مقتادان في الطرق الظليلةْ
ضيعتها وأضعتَ كفَّ دليلك الحبشيّ خلفكْ
ونسيتَ من فرط التسكع مرةً أخرى عصاكْ
يا مياه الخليجْ
يا مياه المياهْ، يا مياهْ
ارفقي بالمغني واجعلي من يديكِ عصاهْ
فالمغني إذا تاه، تاهْ...

عرض مقالات: