في ساحة الاندلس، معالم كثيرة مشبعة بالتاريخ والجمال والرسوخ، اولها نصب بغداد للمبدع محمد غني حكمت، تلك المرأة الجميلة التي تجلس باسترخاء وهي تواجه دجلة وتدير ظهرها الى مبنى كبير يحمل اسم الجواهري، حيث يقف قرب بوابته تمثال للشاعر وهو يلوح للمارة... امام المبنى مستشفى تاريخي أيضاً اسمه "مستشفى الحيدري" قبل ان يصادر الاسم ليصبح مستشفى "الشيخ زايد" بجانبه يافطة كبيرة لمشفى قديم اسمه "مشفى الأمل للطب النووي"، المعني بأمراض السرطان. كنت اقف قبالة مبنى الاتحاد منتظرا سيارة تكسي حينما رأيته يسير بهدوء، عيناه تحدقان في الفضاء ببطء يشبه خطاه، رأيت في وجهه حزنا غريبا، وعلى عنقه آثار الخطوط البنفسجية التي يخطها الطبيب على مكان المرض لكي يمرر الاشعاع، كان مشغولا بمراقبة تمثال الجواهري وهو يلوح للمارة.. ناديته باسمه بعد أن اجتازني بخطوات التفت الي تعانقنا، لاحظ نظراتي المركزة على البقع الزرق في عنقه قال لي انه مصاب بالمرض القاتل، وانه يعرف ان الامر ميؤوسا منه، ولكن الحاح الاطباء وتطميناتهم هي من قادته الى اكمال الجلسات العنقية.. سرنا بهدوء وصمت اخرق يهيمن علينا، لم اجد كلمة اقولها رغم فورة العواطف والحزن في اعماقي. اخترنا أحد المقاهي القريبة بعد ان شربنا الشاي، حدثني عن محنته مع السرطان وعن سفرته العلاجية الاولى الى الهند قال: سافرت وحدي، لآني لم اخبر العائلة بالمرض، في مطار بغداد كان الأمر طبيعيا، لكن حينما اقلعت الطائرة أختلف الأمر، كان الوقت ليلا "الطيران ليلا في طائرة عملاقة متجهة بك الى منفى يقصده المرضى حصرا، لا يشبهه طيران آخر خاصة حينما تنظر عبر النافذة فلا ترى سوى السديم اللامتناهي من الظلمة ـ المجهول". في تلك الساعات التي مرت كأنها دهر أحسست بالوحدة المطلقة، وحدة لم اعشها من قبل، تأملت كثيرا في هذا المرض اللعين، وكيف وصل الى اعز وأرق جزء من جسدي، صحيح "أن التدخين واليورانيوم والنظام الغذائي وتلوث الهواء" هي اسباب مهمة في الاصابة، لكنني غير مقتنع بها وحدها، يمكن أن أضيف لها سببا أعده رئيسا! قلت ما هو؟ قال "الفزع" قلت له: أي فزع تعني؟ قال الفزع بوجوهه كلها، ليس أولها حينما تم اقتيادي أنا وثلة من الأصدقاء الى "الشعبة الخامسة" هناك داهمني فزع لم اجربه من قبل، فزع ضغط على قلبي واخرجه من مكانه ليهبط به الى قدمي وهو ذات الفزع الذي كان يتصاعد حينما وضعنا تحت مطارق قنابل الهاون في حرب الثمان اللعينة كذلك هو ذات الفزع الذي عشناه بعد انهيار الجبهة والمطاردات التي كانت تعقب انهيار البعض من الرفاق والبحث عن الملاذات، الفزع ذاته كان يداهمنا حتى في بحبوحة أبي نواس والمقاهي الموزعة على جانبيه.. لم نعد نأمن حتى بأقرب الاصدقاء.. نعرف أننا مراقبون دائما من أناس نعرف انهم يراقبوننا ويعرفون بأننا نعرف بانهم يراقبوننا.. نكتة سمجة نعيشها بشكلها اليومي التافه... استطيع أن اضيف سببا آخر وهو "القنوط" ـ عن ابناء جيلنا اتحدث ـ اليأس والفزع واليورانيوم.. والاشعاعات التي تلوث اجواء المدن واطرافها بوابات أولى للسرطان. حالما انتهينا من شرب الشاي نهض، لمحت في عينيه نظرة لم استطع أن افهمها، وكلما حاولت أن استعيد القها وعمقها افشل تماما، تعانقنا ونحن نذرف دمعتين بعد أن اتفقنا على لقاء قريب.

عرض مقالات: