في صحوه يتعامل مع أقرب الناس كتعامله مع أي شخص غريب، يُشعره أنه بحاجة إلى شهر أو سنة أو عشرين عاما ليغدو في درجة صداقة هي موجودة أصلا! لم يبق إلاّ أن يبتدئ معه بتقاليد اللقاء العابر، أن يسأل عن اسمه وعمله وسبب تواجده، كأنَّه يبدأ دائما من درجة الصفر، من أولى طقوس ذلك اللقاء العابر، يا لغرابته!
حقا، فاق ذلك المخبول بأشواط هربه الجميع، وتمكن بدهاء لافت من التغلب على كل حيَّل الزنابير وأفراد الجيش الشعبي، وغدت حظوظه كبيرة في الحصول على نماذج الإجازات وكتب المأموريات، ثم تجاوز كل ذلك بسهولة، وتمكن من تزوير بطاقة هوية رسمية "جدا" أغنته عن كل نماذج الاجازات الوقتية، فراح يشاكس كل الزنابير، ويصر على ارتياد الأماكن والشوارع التي لن تخلوا من تواجدهم، وهو ما أثار في قلوب الهاربين العجب والحسد والغيرة من "ملك التزوير". ثلاثية غريبة، نمت واشتهرت ثم اختفت، حالما حلَّت به واقعة مذهلة تشبه "نكبة البرامكة". هي واقعة أغرب من الخيال تقع مرة واحدة طوال عمر البشر على سطح الأرض! حصلت بإشارة إصبع زنبور أجبرته على الطاعة، من غير أدنى ممانعة.
طلبَ منه الزنبور بطاقة هويته، فسارع إلى تقديمها، قرأ اسمه ومهنته فأدرك أنه....، " شغله ما طَرَأتْ على خلايگ الله". حدَّق الزنبور في البطاقة، قَلَبَها وطالع ظهرها، ثم عاد وحملق في وجه البطاقة فجحظت عيناه، ابتسم في النهاية.
حصل كل ذلك وهو ما زال كعادته يغط في مأمنٍ اعتاد عليه منذ سنين، لكن الزنبور خرج من دهشته وقال: اسمع، أنت عسكري منتدب في وزارة الصحة، موظف، خريج معهد وقاية صحية. هذا ما تثبته بطاقة هويتك. "أوك"، أعترف لك أن لا وزير الصحة ولا وزير الدفاع ولا حتى "الريس حفظه الله" سيعترض أو يشكك ببطاقة هويتك، لا أحد في الدنيا ينتابه أدنى شك في سلامة هذه الوثيقة الرسمية. ههههه، يا لحظك العاثر، مَنْ أتى بك إلى هنا!؟ وكيف اصطدتك!؟ أنا الوحيد الذي يعترض عليها، ويقول لك ببساطة، هذه البطاقة مزوَّرة. سأرميك في الحبس يا محتال، يا صاحب الحظ السيئ، ولكن هل تعرف لماذا؟....، ههههه، شيء لا يُصدَّق. تاريخ تنظيم الهوية يا "حلو"، هو ذاته تاريخ وفاة أبي رحمه الله، في ذات اليوم والشهر والسنة، وقد حدث في صبيحة يوم جمعة، وهي عطلة الدوائر الرسمية في عموم العراق باستثناء دائرة الطب العدلي!
يا لحظك العاثر.