شارك عدد من الباحثين والاكاديميين العراقيين في الندوة الثقافية التي اقامها أخيرا منبر العقل في الاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين تحت عنوان (التظاهرات بوصفها خطابا ثقافيا) حيث أثار المشاركون عديد الاسئلة التي تخصّ توصيف هذه التظاهرات التي عمّت أكثر المدن العراقية، وطبيعة مرجعياتها الشعبية والثقافية، وما تركته من علامات فارقة حول اشكاليات مفاهيمية لها علاقة بموضوعات(التحول الديمقراطي) والدولة والهوية، والجماعة، وعلاقة هذه التظاهرات الاحتجاجية برثاثة المشروع الوطني وضعف بنايته، وهشاشة القوى السياسية الجديدة في تمثيل معطيات هذاالتحول، في سياق الدعوةالى الدولة المدنية، أو في سياق مواجهة مظاهر الفساد والمحاصصةالطائفية، وفشل التعاطي مع موضوع تأهيل (الاجتماع العراقي) للمغايرة وللقبول بالآخر، ولتنشيط البنى المؤسسية للدولة في سياق بناء وحداتها التعليمية والصحية والخدماتية والحقوقية.
افتتح فعاليات هذه الندوة الباحث ناجح المعموري- رئيس الاتحاد العام للادباء والكتّاب في العراق- مشيرا الى طبيعة هذه التظاهرات ومرجعياتها الاجتماعية والثقافية، والتي حاول من خلالها المتظاهرون فرض واقع جديد، بعيدا عن هوية السلطة المركزية وتمثيلاتهاالاجتماعية والدينية. مؤكدا أهمية أن يدرك المثقفون الحاجة الى العمق الفكري في سياق تحريك الجماهير، وفي رفع الشعارات، وفي تبني المطالب التي تدخل في الاطار البنيوي للدولة.
إنّ التظاهرات كما يقول المعموري كانت نوعا من التواصل، وفعلا حقيقيا وواقعيا نحو التغيير، وهذا ما يجعل التلاقي والتفاعل بين الثقافي والشعبي يكتسب اهميته من خلال استشراف المستقبل، والقدرة على تحريك القوى الفاعلة نحو هذا المستقبل..
وحول تغيير معادلات السلطة والثروة، ودور الجماهير والقوى الثقافية الفاعلة تحدّث النائب رائد فهمي (عن كتلة سائرون) في سياق ما يمكن أنْ تفرزه التظاهرات الشعبية من معطيات، والتي يمكنها أن تؤثر على حياة الناس، والتي نطمح من خلالها الى أنْ تكون عناوين ثقافية لتنمية الحراك الاجتماعي، ولاشاعة المطالب الحقيقية والسلمية حول قيم المواطنة، والمشاركة، ومواجهة الفساد، وتبني خطاب الاصلاح الاداري والسياسي، ولكي تكون فكرة الدولة هي المجال الحقوقي والثقافي الذي يؤطر عمل الاجتماع العراقي، ويُعطي للتظاهرات هويتها بعيدا عن توجهات المصالح والاحتواء، فضلا عن اهمية التحليل الثقافي للشعارات واليافطات التي حملها الجمهور التظاهري، والتي تعكس في جوهرها وعيا نقديا عميقا..
التظاهرات والتحول الاجتماعي
أثار الباحث الدكتور رسول محمد رسول المقيم في دولة الامارات العربية جدلا حول صدمة التظاهرات، واهميتها في تحريك الساكن السياسي والاجتماعي، إذ تحولت هذه التظاهرات الى مصدر إلهام لكثيرٍ من الجماعات العراقية للتصريح بـ (المسكوت عنه) الذي حاولت قوى الاسلام السياسي عزله وتهميشه، وفرض سياسة الأمر الواقع. فما جرى في التظاهرات هو تحوّل مهم في مسارات الوعي الاجتماعي، وفي التصريح العلني بنقد الظاهرة السياسية، وفي فشل السياسيين وعجزهم عن الالتزام ببرامجهم وبطروحاتهم السياسية.
وفي هذا السياق تحدث الدكتور علي المرهج استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية عن علاقة التظاهرات بالوعي الاجتماعي،ومدى فاعلية هذا الوعي في اثارة الجدل حول المشكلات العميقة التي يعاني منها العراقيون منذ الاحتلال الى يومنا هذا. وما التظاهرات التي تحولت الى ظاهرة اجتماعية وثقافية الّا تعبير عن هذه المتغيرات، وعن استشراف أفق جديد للتحول، ولمواجهة ازمات التنمية، ومظاهر الفشل السياسي والاداري، الذي اعطى للحراك الاجتماعي بُعده النقدي والشعبي في تعرية ثقافات الهيمنة والتمركز حول الاسلام السياسي، وحول اوهام الطائفية والجماعوية.
تظاهرات البصرة والفاعل الثقافي.
الاشتباك ما بين السياسي والطائفي هو المدخل الذي حاول الباحث د. محمد عطوان استاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة إثارته، من منطلق أنّ الخلط ما بين الطائفي والسياسي قد يكون من أكثر المعوقات التي تواجه الحراك الاجتماعي. فهذا الخلط يعكس أزمة التوصيف الثقافي للتظاهرات، والكيفية التي يكون فيها دور حقيقي لـ (الانتلجنسيا) العراقية.
فما حدث يبدو اكثر استغراقا بالحساسية الشعبية، وأن المثقف العراقي كان بعيدا عنه، حيث يعيش محنة عزلته وهامشيته، لا سيما وأنّ ماجرى في البصرة من تظاهرات في الشهر الماضي عبّرت في جوهرها عن جوهر هذه الحساسية، وعن رفضها لتعويم كثيرٍ من المشكلات التي تخصّ البنى الخدماتية والصحية في المدينة، لا سيما مشكلة الماء، التي كشفت عن مظاهر عميقة للفساد، وللمحاصصة، وللتجاوز على استحقاقات هذه المدينة الكبيرة من قبل الحكومة المركزية والحكومة المحلية..
وعن فاعلية التظاهرات ودورها في التحشيد والاحتجاج تحدّث الدكتور حازم هاشم استاذ النقد في جامعة ذي قار، إذ أكد على ضرورة عدم فصل هذا التحشيد عن الحاجة الى الوعي، والى مسؤولية ربط الحاجات الوطنية بمشروع وستراتيجيات التنمية، لأن تكامل هذه الحلقات هو المجال الذي يعزز مسار التحول البنائي، الذي يمكن أنّ يلبّي بعض حاجات الجمهور الرافض للفشل البنائي والسياسي والخدماتي. فضلا عن ضرورة نقد كثير من مظاهر الاسلمة السياسية وشعاراتها في الاحتواء أو تهميش الجانب الاصلاحي الحقيقي في هذه التظاهرات..
واشار د. قيس ناصر استاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة الى هوية التظاهرات في مدينة البصرة، التي وضعها في سياق تحولات عفوية وأخرى غير عفوية، لا سيما وأنّ بعضها قد تحوّل الى احتجاجات عنفية طالت مقرّات الأحزاب السياسية، وهو ما يعكس نزوعا لتجاوز المظاهر السلمية، والتعاطي العنفي في النظر الى طبيعة الخطاب السياسي، والذي يعني توصيل رسائل مهمة على مستوى صياغة الرأي العام، أو على مستوى الضغط على السياسيين لاعادة النظر بممارساتهم غير المسؤولة وفي أطر عملهم.
واختتم فعاليات هذه الندوة الدكتور احمد مهدي الزبيدي استاذ النقد في الجامعة المستنصرية بالحديث عن تعالق الفعل الثقافي كخطاب مع التظاهرات كفعالية اجتماعية، وهو ما يعني الحاجة الى التأطير الثقافي للحراك الاجتماعي على مستوى العناوين والخيارات، ولتوضيح كثير من الصور التي تخصّ ما هو مطلبي وما هو ثقافي وسياسي، لأن هذه التظاهرات الواسعة تعكس رفضا شعبيا للخطاب السياسي السائد، وتشدد على ضرورة التغيير، وحتى المواجهة مع القوى التي تحمي الفساد والفاسدين، وهو ما يعني أهمية الحضور الثقافي والاعلامي لاثارة اسئلة التنوير والاصلاح والتغيير..