القراءة فن اكتشاف الذات والآخر، ولو لم تكن فنًا لما تعددت أساليبها ولما أصبحت النافذة الفكرية على فهم أنفسنا والعالم، يحدثني صديقي الاديب عن قراءاته المتسرعة للكتب الفلسفية، خاصة تلك التي تؤشر إلى ما يمكن اعتباره توضيحًا أو شرحًا لأفكار معاصرة،  ويجيب عن نفسه إنها قراءات متسرعة، لأني "يقول" اقرأها دون أن أجد شرط تحققها واقعيًا، فأية قراءة هذه التي لم تجب عن أسئلتي؟ لا شك إنها قراءة منقوصة عندما لا تجد شيئًا أو حتى ظلا مما تقرأ وقد تحقق على أرض الواقع، حتى لو كان  التحقق معلومات يقولها درس الفلسفة في الجامعة. فأي اكتشاف لما اردت السؤال عنه إذا لم تكن القراءة فيه بالعمق الذي تتطلبه مشكلات الواقع قبل أن يفرضه عليّ المؤلف، يبقى دون جدوى. من هنا وجدت أنه لا يمكن فهم ما يجري إلا بالقراءة المسؤولة، تلك الذي يثير مزًيدا من الأسئلة والحديث عن القراءة المتسرعة، قد يكون أهون من الحديث عن التطبيق المتسرع للأفكار التي نقرأها كي نؤمن بها، خذ التشويه الذي اضفته القراءات المتسرعة من قبل السياسيين للفلسفات العلمية الحديثة، وحتى للفلسفات الدينية، فما نشاهده اليوم من اضطراب في القيم والتطبيق للدين الإسلامي وفلسفته لا يمت بصلة للدين ولا للفلسفة الإسلامية، لأن ما يحدث من تشوبه يتم  عبر القراءة المتسرعة وغير الدقيقة للكثير من المفاهيم الفكرية والتطبيقية للآيات القرآنية. وترانا منساقون دون نقد وفهم لمثل هؤلاء الكتاب وقد مسك بعضهم برقاب السلطة ومراكز التنفيذ، وأصبح سيفًا على الآراء والأفكار الأخرى، بعد ما مهد لنفسه السلطة على قطيع من تابعيه. ليس مستبعدًا أن الذين قرأوا ماركس والفلسفة الماركسية في أوربا الاشتراكية لم يكونوا على بينة كافية من فلسفة ماركس وأبعادها ودور النقد الذاتي الذي احتوته، والأفكار المتطورة التي يمكن استشرافها عندما تتغير الأوضاع، فقد قرأوه قراءة متسرعة و ناقصة وتلبي أغراضهم الذاتية، وجعلوا منها فلسفة معادية للأديان وللرأسمالية فقط، في حين أن فكر ماركس انصب على الكشف المنهجي والدقيق للازمات الرأسمالية التي لا يمكنها أن تعيش بدون ازمة اجتماعية وأخلاقية بما فيه نقد  التيارات الدينية التي ساعدت الرأسمالية في إفقار الشعوب من خلال إشاعة ثقافة الوهم. ولكن الفكر المناهض للماركسية فهم الماركسية علميًا وحولها إلى منهجية درسوا في ضوئها الكيفية التي يواجهون بها أزمات الرأسمالية نفسها، وهذا ما أشار إليه سمير أمين في كتابه "الرأسمالية تجدد نفسها" في حين أننا لخصناه إما: إلى منهجية ثورية دون أداة جماهيرية، او إلى مقولات معادية لمعتقدات أخرى، والماركسية التي قالت: "أن الدين عقلٌ للشعوب" لم تجد صدى لدى من قرأ الماركسية بعمق وبذلك خسرنا أهم فكرة كانت تنتصر للقوى الاجتماعية ضد مستغليها، ولن يجد العالم صورة أكثر وضوحًا من استغلال الطبقات والفئات الرأسمالية العربية والآسيوية للناس الفقراء. ولم يقف الأمر على جهلنا بماركس وثقافته، بل شمل جهلنا دور أهم أربعة فلاسفة كبار، اضافة إلى ماركس غيروا التاريخ البشري: اينشتاين وهيجل وفرويد وداروين، وهؤلاء الخمسة هم اليوم في صدارة فهم حركية العالم والتاريخ والشعوب. ينصب اهتمامي هنا على الأدباء الذين يكتبون أدبا بدون فلسفة، فالأدب مهما كانت توجهاته لا يجد صداه المعرفي دون أن يُشبّع بالفلسفة، ولابأس من أن نجد نثار هذه الرغبة في الفلسفة العربية الاسلامية ابتداء من الكندي وانتهاء بالمرزوقي، ولكن علينا أن نكون حذرين ونحن نكتب الرواية والقصيدة والمقالة من أن يخلوا توجهنا من رؤية فلسفية جديدة فيها شيء من طعم الرؤية النقدية وأفقها المستقبلي، وقراء الأدب من غير النقاد يتمسكون بحرفيات النصوص كأنهم اصحاب علوات للوزن الكمي، لا يرون الأدب خارج الأطر الفلسفية، بل ولا يجدونه مشبعًا بها حتى في ابسط تراكيب جملهم اليومية، وهذه مهمة النقاد المفكرين الذين لم يفكروا ببيوت لها أبواب يمكن أن يتسرب منها ما يغاير محتويات بيوتهم ، ولم يضعوا ستائر شفافة لنوافذ غرفهم كي يكون بمقدورهم رؤية ما يحدث خارجها.

دعوة واضحة الأهداف، أن نقرأ دون تسرع، وأن نمعن بما نقرأ، وعلى مستوى الذات وجدت العودة لكتب سبق وان قرأتها في السبعينيات والثمانينيات، فائدة أكبر مما قرأتها يومذاك. فالقراءة الجديدة اكتشاف لثقافة ما كانت معلوماتنا متوفرة عن حقولها يوم نشرت، ولن اتحدث عن فعل الامر "اقرأ". ففي الفعل "اقرأ" تكمن كل حقول المعرفة المستقبلية.

عرض مقالات: