في اليوم الحادي عشر من آذار سنة 1917 رأى أهلُ بغداد عَلَماً يُنزَل من ساريته، ورأوا آخر يُرفع؛ وشهدوا جيشاً يدخل المدينة، وآخر يخرج منها؛ وكلا العَلَمين، والجيشين غريب ، دخيل! كان العَلَمُ الذي أُنزل شديدةَ الوطأة على الناس؛ أقام فيهم دهراً فأشاع الخوف والجهل والفقر، ورمى البلد في هاوية مظلمة؛ فما عسى أن يكون شأنُ العَلَم الجديد ؟!
لقد دخل العَلَمُ الجديد إلى المدينة محفوفاً بدعوى التحرير؛ على نهج الغُزاة في تسويغ أفعالهم؛ فصدّق ناس أثقلهم جورُ العَلَمِ القديم، ورجوا أن تُزاح عن البلد أوزار الاستبداد والفقر والجهل، وأن يستردّ سيادة أضاعها عليه العثمانيّون !
كانت بغداد قد بعد عهدُها بسيادة الراية العربيّة؛ فقد طويت صفحةُ مجدها منذ قرون ، وأسلمتْ قيادها لقُوى غريبة عنها ؛ لكنّها اليوم، إذ مضى عهد وأقبل عهد، شرعت تتحفّز، وتستعيد ذكرى عزّها ناظرةً بعين الريبة إلى ما يعِدُ به الغازي الجديد!
وإذا كان العَلَمُ القديم قد نُشر بعنوان الإسلام، فإنّ العَلَم الجديد جهير في إعلانه الغزو؛ لا يستره إلّا غشاء رقيق من دعاوة التحرير، ما أسرع ما انهتك!
وحين دخل الغازي البصرة في سنة 1914، وكان محارباً شرساً سلاحه المدفع ، والذهب الأصفر؛ اندفع أهل العراق يصدّونه بما ملكت أيديهم، ويسعون في منع بلادهم منه؛ وإذ انكسروا في الشُعيبة، وخُذلتْ طليعتُهم ، أخذ الغزاة يتقدّمون نحو بغداد؛ لكنّهم لم يبلغوها إلّا بعد ثلاث سنوات من القتال المرّ!
كان الشعب قد استفاق، وأدرك، بنحو ما، ما يريد، واتضح له حقُّه في كيان مستقل على أرضه؛ ولسان حاله يقول : لئن دخل الغازي اليوم فلا بدّ له من أن يخرج غداً! وقد شرع قادة الرأي فيه ينشرون أفكارهم الجديدة ، ويدعون إلى قيام حكومة عراقيّة مستقلّة، وينتظرون وعد الإنكليز!
لكنّ الإنكليز يُخلفون وعدهم، وينشرون جنودهم وأعوانهم في البلاد، ويُظهرون للناس وجهاً قبيحاً؛ وكلّما عتوا زاد وعي الناس بما هم فيه، واشتد تطلّعهم لإرساء كيان عراقيّ يحفظ وحدة البلد، ويصون كرامة أهله!
وتقوم ، في النجف في سنة 1918، ثورةٌ يُقتل فيها الحاكم الأجنبيّ، وتُعلن المدينة عصيانَها، ويُعرب الناس عن سخطهم على المحتلّ وجيشه؛ لكنّ الثورة تُخفق، ويذهب القائمون بها بددا؛ فتُخمدُ الأصوات، ويُقمع الثائرون، وتُنصب لهم المشانق، ويسود خوف، ولكنْ ، تحته يقظةٌ، ويُشيع يأسٌ ، ولكنْ، بين طيّاته أملّ! ويستحيل رمادُ الثورة المقموعة شرارة خفيّة سوف تكون ممّا يُضرم نار الثورة الكبرى في 30 حزيران 1920!
كانت صغار الحوادث، وكبارها تلتقي على صعيد البلد كلّه؛ من شماله إلى جنوبه، وتمدّ أهله بروح الثورة، وكان قادة الرأي يسعون بين المدن والقرى، ويحرّضون على مناهضة المستعمر، وكان للشعراء والخطباء سيادةُ المحافل يوقدون بكلماتهم نار الثورة!
وإذا ذكر الشعر والخطابة في مقام الدعوة الموقظة فإنّ محمّد مهدي البصير في الطليعة منهما؛ أنشد الشعر، وألقى الخطب، وحرّض على الثورة من منبر جامع الحيدرخانة ببغداد ، فكان صوتها الجهير!
نشأ في تلك الأيّام جوّ تلتقي عنده المدينة بالقرية، ورجل الدين برجل السياسة؛ مدارُه ألّا يبقى البلد رهينةَ المستعمر الغازي، وأنّ السبل كلّها مشرعة لإتمام طرده ! على أنّ ذلك لا ينفي وجود أصوات كان صغوها إلى الإنكليز؛ إمّا جهلاً وسوء تقدير، أو تعلّقاً بمنفعة عاجلة!
سادت البلد كلّه روحٌ واحدة، وتأهّب الناس، واستعادوا أمجادهم ، وما بقي إلّا الشرارة الأولى؛ حتّى إذا كانت واقعةُ الرميثة اندفعوا لا يلوون على شيء؛ تسندهم فتوى، وتقودهم عزيمة!
وليس قليلاً أن يواجه فلاحون لمّا يخرجوا من ظلام التاريخ ، وجور السلطة العثمانيّة ، جيشَ دولة كبيرة شديدة البأس مثل بريطانيا! لكنهم واجهوا، وثبتوا في ميدان القتال ؛ يدفعون الأذى عن كرامتهم!
دامت المعارك خمسة أشهر دامية تجلّت فيها روح العراقيين في تقحّم المصاعب، وإرخاص الأنفس في سبيل غاية سامية!
وإذا كان المقاتلون في الميدان قد بنوا أمرهم على الصدق والثبات، وأنّ لهم مقصداً واحداً؛ أن يخرج الإنكليز من البلد، وأن يتأسّس حكم وطنيّ؛ فإنّ آخرين ممّن يمسكون بخيوط الإدارة بنحو خفيّ كان لهم مسعى آخر؛ مسعى شرع يجنح بالثورة حتّى هدأت، وألقت سلاحها في 20 تشرين الثاني سنة 1920 ، من قبل أن يتمّ ما قامت من أجله، فتفرّق أنصارها، وتسلّط عليهم الإنكليز بالسجن والنفي والأذى!
وشعر الناهضون بالثورة أنّهم خُدعوا، وأنّ قوّة ما قد دفعت بهم عمّا يريدون، ونحّتهم، واختطّت درباً آخر؛ يقول محمّد حسن أبو المحاسن، وهو من شعرائها :
ثورةٌ أصبح مـــن آثارهــا
حـظــوةُ الخــائنِ والمفــتتنِ
معشرٌ في نِعمٍ قد أصبحوا
من مساعي معشرٍ في محنِ
ويقول محمّد مهدي البصير في المقام نفسه من الخيبة والخذلان :
كافحتُ أعدائــي ولستُ بواثق
أنّ النجــاح مــقدّرٌ لــكفـاحـــي
لكنّمــا وطنــــي دعــا فـأجبتُـه
وأبيتُ للباغين خفضَ جنـاحـي
ولئـن رجعتُ بغيــر ما أمّلتـُـه
ونزعتُ من يد قاهريّ سلاحي
فلقد أفدتُ من المصائب خبرةً
ستكون عند العود سرَّ نجاحـي
لكنّ البصير، من بعد، لم يرجع إلى ميدان السياسة؛ فقد طوى صفحته يائساً منه، واتّجه نحو العلم!
وينطفئ، في النفوس، أمل ٌ، وتشيع خيبةٌ، وينتشر أسى ؛ إذ لم تبلغ الثورة تمامها، ولم تُنجز ما أُريدَ منها يوم قامت ؛ لكنْ سكنت وألقت سلاحها، وانبثق عنها حكمٌ شائهٌ، مهزوزُ الأركان؛ يسعى في رضا الإنكليز، وأعوانهم، قبل سعيه في رضا سواد الشعب! يقول البصير في سياق الأمل المنطفئ :
بكيتُ لِمَا انتاب البلادَ فراعها
من الثُكل لمّا فات أحرارَها النصرُ
أما كنتَ تدري أنّ ذلك واقـعٌ
إذا فشلت فــي قومـك الوثبةُ البـكـرُ
غير أنّ الثورة الكبرى، وهي تُخفق وتسقط دون أهدافها، أوقدت في الضمائر شعلةً لن تخبو، وأشاعت روحاً وطنيّاً انتظم البلاد كلّها، وظلّت ملاذاً يلتجئ إليه أبناؤها، وأبناء أبنائها كلّما مسّهم ضيم!
وقف الجواهري في سنة 1946 يُؤبّن جعفر أبو التمن في أربعينيّته، وأبو التمن من زعماء الثورة الذين بقوا على نهجها في الصدق والثبات والشعور الوطنيّ؛ فقال مستعيداً التاريخ بأوجاعه، وبما آلت الحوادث إليه :
قسماً بيومك والفراتِ الجاري
والثـورةِ الحمـراءِ والثـوّارِ
قسماً بتلك العاطفـاتِ ولم تكن
لـي قبلها مــن حِلفـةٍ بالنـارِ
إنّ الذين عهِدتَهم حطبَ الوغى
لولاهـم لم تشــتعل بـأُوارِ
واللاقحيــن نتاجَــها بأعزّ مــا
ملكت يمينٌ من حمى وذمارِ
والداهناتِ دماؤهم لِممَ الثرى
والمؤنساتِ شواطئَ الأنـهارِ
والناحرين من الضحايا خيرَ ما
حملت بطونُ حرائرٍ أطهارِ
ما إن تزال حقوقُهم كذويهم
في القفر سارحـةً مع الأبقارِ
وأعزّ ما تبغي الحلائلُ منهم
أن تُستر العوراتُ بالأطمـارِ
والقصيدة كلّها صريحة في بيان مآل الثورة الكبرى، ومآل من نهض بها ؛ فلقد طُفّف لهم الكيل، ونُحّوا عن صدارة المجلس؛ يقول :
خمسٌ وعشرون انقضت وكأنّها
بشخوصها خبرٌ من الأخبارِ
مــن كان يحسبُ أن يُمدّ بعمـره
حكمٌ أُقيم علـى أساسٍ هاري
ومن أجل هذا كانت ذكرى الثورة تُقض مضاجع رجال العهد الملكي؛ إذ يرون فيها صورة الشعب الثائر، ومجلى الروح الوطنيّ! وظلّت تؤذي مسامع كلّ مستبدّ طاغية؛ فلا غرو أن يُعيد نفرٌ قراءتها بما ينزع منها الروح الوطنيّ الحر!
إنّ الثورة العراقيّة الكبرى، وقد مرّت مائة سنة على قيامها، لهي مفخرة من أجلى مفاخر البلد؛ أشاعت روحاً وطنيّاً ينتظم البلاد كلّها، وجعلت " العراقيّة " تتقدّم على ما سواها، وطمحت إلى إقامة حكم مستقل لا يد لأجنبيّ فيه ...!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* استاذ النقد العربي - جامعة بغداد