شهد تاريخ العراق السياسي العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية والتي حدثت منذ تأسيس الدولة العراقية في 23 آب 1921 او بعد انضمام العراق الى عصبة الامم 1932، الا ان الثورة الوحيدة والاساسية التي حدثت قبل تأسيس الدولة هي ثورة العشرين التي حدثت منذ قرن كامل من الزمان.
فهذه الثورة هي التي اسهمت بشكل مباشر وكبير في تغيير السياسة البريطانية في اعلراق والدفع باتجاه تلبية مطالب الشعب العراقي او من يمثله من نخب دينية او اجتماعية او سياسية.
وقد احتلت ثورة العشرين مكانة مهمة في اذهان الباحثين والمؤرخين والاكاديميين ولكن مع تفاوت وتعدد الرؤى حول تقييمها سواء من حيث الاسباب والدوافع او من حيث الطبيعة والخصائص واخيراً من حيث النتائج المتحققة.
فهناك من يعد هذه الثورة بكونها ثورة رجال الدين – العشائر بالأساس ويذهب آخرون لاعتبارها ثورة فيها نصيب كبير للأفندية، وآخرون حللوها من منطلق طبقي وآخرون اضفوا عليها صبغة قومية ووطنية.
ومن جانبنا فاننا نذهب باتجاه انها ثورة عراقية بتآلف او تحالف القوى الدينية والعشائرية والفلاحية والافندية مع ريادة دور رجال الدين في قيادة وتوجيه هذه الثورة، ثورة عراقية تحققت لها اللحظة المناسبة لانطلاق الثورة بجانبها السلمي والمسلح.
وان اي تحليل موضوعي لهذه الثورة لا بد ان يضع في ذهنه مجموعة مسائل منها:
1- ان المناخ السياسي قبل مئة عام يختلف كلياً عن المناخ السياسي المعاصر ولذلك من الضروري عدم اسقاط الاحكام المسبقة على تلك الثورة.
2- ان لرجال الدين وعلماء الدين دوراً اساسياً ومهماً وحاسماً في توجيه المسارات السياسية وقبلها، وهذا شيء طبيعي ومنطقي في اطار البيئة التقليدية وسيادة نوع من الرأي العام نسميه بالتابع وليس القائد. ومذكّرين اننا في 2020 وما زال لرجال الدين وعلماء الدين دوراً مهماً وان برزت الى جانبه اتجاهات مدنية – ليبرالية، يسارية.
3- ان من حق اي امة من الامم ان تفتخر بتاريخية ورمزية ثوراتها وباختلاف الزمان والمكان والاسباب والنتائج، ولكن من المهم ان لا يبقى الذهن مقتصراً على رؤية ماضوية، بل لا بد ان تكون الرؤية المستقبلية هي الاهم والأساس. وهنا نطرح التساؤل الذي مفاده: لماذا تكون الثورة ضد الاحتلال هي اسهل وأيسر من الثورة ضد الاستبداد والمستبدين والفاسدين؟
4- ان لكل ثورة اسبابها ودوافعها، وفيما يخص ثورة العشرين فان نكث بريطانيا لوعودها الى جانب السياسة الضريبية القاسية والظالمة، كانتا من اهم اسباب الثورة ولا نستطيع ان نعزل السبب السياسي عن السبب الاقتصادي للثورة او نرجح احداها على الآخر.
5- ان الضعف البارز في الثورة، هو عدم ملازمة الثورة الاجتماعية للثورة السياسية، لأن اي ثورة لا بد ان تقود الى تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وللعامل الاجتماعي دور كبير ومهم في تحقيق النجاح لأي ثورة.
6- ان الاحتلال لا يقود لبناء دولة بالشكل الموضوعي والصحيح، وخير مثال على ذلك الاحتلال البريطاني والاحتلال الامريكي للعراق مع الفارق الزمني. إذ لم تعمل السياسات البريطانية والامريكية على دق الركائز السليمة لدولة عراقية قوية، دولة مبنية على المواطنة.
فثورة العشرين ادت الى نتيجة معاكسة لآمال ومطاليب من قام بالثورة، سواء كانت بسبب السياسات البريطانية الذي يجدها البعض بأنها ثأرية ضد مكون مهم في العراق وحرمانه من تولي المناصب والمواقع المناسبة والاعتماد على نخب سياسية او عسكرية او ثقافية، اما هي وافدة او من مكون واحد دون آخر. ولذلك نعتقد ان تأسيس في العراق كان يمثل مصلحة متبادلة ما بين بريطانيا وبعض النخب السياسية – العسكرية – الاجتماعية وبالاعتماد على سياسة الاكراه المباشر او غير المباشر والذي كان من نتائجه سيادة عدم الاستقرار بالمعنى الشامل وليس الجزئي وتسيّد النخب العسكرية في الحياة السياسية العراقية ولينتهي العهد الملكي بثورة 1958 التي اشرت بداية العهد الجمهوري، ولكن بصبغة عسكرية وليست مدنية وهذا عامل سلبي اضافي مشوه من عملية بناء الدولة او اعادة بنائها بالشكل السليم.
والاحتلال الامريكي للعراق في 2003، لم يؤدي لعملية بناء دولة بالشكل المتوقع ولا الى حياة سياسية سليمة، اذ غرست في الارض العراقية بذور المحاصصة بكل اشكالها وقيم المكونات وليس بذور المواطنة.
المشكلة في العراق بعد 2003 ان الكتل السياسية والحزبية المؤيدة لسياسات امريكا او المعارضة لها ينتقدون المحاصصة والمكونات ليل نهار لكنهم يتمسكون بها عند توزيع المناصب والمغانم ولم نجد كتلة واحدة الا ما ندر ترشح شخصاً لمنصب او موقع ما ان لم يكن من نفس الطائفة او القومية او الحزب او من المريدين.
ومثلما ظهرت مشكلة النخب الوافدة عند بدايات تأسيس الدولة العراقية في العهد الملكي فاننا نجد نفس المشكلة تكررت في العراق بعد 2003 إذ هيمن مفهوم عراقيو الداخل وعراقيو الخارج ولتكون الريادة والسيادة (لعراقيو) الخارج بشكل مباشر او غير مباشر على مقاليد الامور في العراق.
ونفس الاخطاء تكررت اذ تم اهمال المضمون الاجتماعي في كلا العهدين والاهتمام بالمضمون السياسي (وبشكل مشوه) على حساب المضمون الاجتماعي، ولذلك نجد ان بوصلة الديمقراطية في العراق قد ضاعت بالقدر الذي نعتقد انه لا نستطيع ان نسمي نوع الديمقراطية في العراق فهي ليست ليبرالية ولليست اجتماعية، بل هي ديمقراطية الانتخابات وهيمنة زعماء الكتل وليست حكم الشعب وبالشعب وللشعب كما تم تعريفها اصلاً.
7- في الوقت الذي طرح الرئيس الامريكي وودرو ويلسون المبادئ الاربعة عشر ومنها حق تقرير المصير فان التفاهمات ما بين الدول الكبرى لم تحترم هذه المبادئ اصلاً، فالمصالح النفطية والاقتصادية كانت هي اهم بكثير من حقوق القوميات والشعوب، لا بل ان من قام بالثورة في العراق اصبح مطارداً ومستهدفاً، ومن أيد الاحتلال صاحب حظوة عنده.
وسواء كان بسبب الفتاوى الدينية التي حرمت التعامل مع الانكليز او بسبب عدم توافر الكفاءات المناسبة لشغل المواقع والمناصب الادارية وغير الادارية بسبب سياسات التجهيل المتعمدة او الاقصاء والتهميش المنهجي، فان النتيجة كانت واحدة والمتمثلة بضعف اساسات الدولة العراقية واعتماد سياسات اكراهية اكثر مما هي طوعية في ايجاد كيان موحّد بشكل رسمي، لكنه واهن من الناحية العملية ولذلك كانت هناك شكاوى عديدة واعتراضات اكثر على السياسات المعتمدة ضد المطالب لهذا المكون او ذاك، ونعتقد ان شكوى الملك فيصل الاول من موضوع وجود الملل المختلفة في العراق هو بالمحصلة نتيجة طبيعية لسياسات خاطئة كان منها استيراد شخص يحكم العراق من الحجاز رغم اعتقادنا من ان الملك فيصل الاول كان يعرف ويتقن آليات التعامل مع الانكليز.
وتتكرر نفس المشاهد في العراق بعد 2003، فمع انغماس مكونات محددة في الحياة السياسية والعملية السياسية بعد 2003 وانكفاء وانعزال مكون آخر اثر بشكل سلبي على عملية بناء الدولة العراقية من جديد والتي ادت الى تأخر العراق عن انجاز الكثير من الملفات المرتبطة بأساسيات التحول الديمقراطي وانشغال النخب والقوى السياسية بمعارك سياسية سلاحها الاحتقان الطائفي والمذهبي كان من الممكن ان نتجاوزها ونحقق خطوات مهمة في طريق التحول الديمقراطي.
والدرس المهم الذي نستنتجه من هذه المقارنة هو ان العراق لا يمكن ان يحكم في اطار الخيار الديمقراطي الا بمشاركة جميع اطيافه ومذاهبه ومكوناته ولكن بشروط المواطنة والكفاءة والنزاهة والعدالة الاجتماعية وليس عبر الاعتماد على المغانم الحزبية – السياسية واهمال المضمون الاجتماعي الذي هو العنصر المستهدف من أي عملية تحول ديمقراطي حقيقية.
7- ان هناك مقبولية عالية لدى القواعد الاجتماعية لمبدأ الثورة والاحتجاج والتظاهر والانتفاضة وبالمقابل يوجد رفض لكل هذه الانواع في العقل السياسي الرسمي العراقي. والعقل السياسي الرسمي العراقي حين يكون بالمعارضة يدعم كل انواع الرفض للظلم والاستغلال والاستبداد والطغيان ولكن حين يكون المعارض في السلطة (في الغالب وليس العام) يعمل اعادة جدولة للعقل ومسح كل ما له علاقة بالرفض والاحتجاج والثورة وابقاء كل صغيرة وكبيرة لها صلة بالطاعة والخضوع والخنوع وإن لم تكفي هذه يلجأ الى اضفاء صفات التخوين والتآمر على كل محتج ومعارض وثائر.
ولذلك نقول ان الثورة الحقيقية هي تلك الثورة ضد الظلم مهما كان منشأ هذا الظلم، وثورة ضد الاستغلال مهما كانت صورة هذا الاستغلال ومن يمارسه.
هي ثورة ضد الاحتلال بكل انواعه واشكاله، وثورة ضد الاستبداد والاهم والاكثر ضرورة في يومنا هذا ثورة ضد المفسدين قبل الفساد لاننا في العراق نسمع من الجميع انهم ضد الفساد ومن الضروري ان نعدّل من الخطاب والشعار المشروع ونقول ثورة ضد المفسدين لأن المفسد هو الذي يعطل ترسيخ الخيار الديمقراطي وهو الذي يلغي مبدأ المواطنة من قاموسنا السياسي والوطني وهو الذي يعمل على إضعاف الدولة ومؤسساتها وهو الذي يستبدل معايير التحضر والتنمية والتقدم بمعايير الخضوع والجهل والتخلف.
ان الشعب الحي هو ذلك الذي يعمل ثورته المستقبلية وليس ان يبقى اسير الماضي والتاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* استاذ العلوم السياسية – جامعة بغداد