ليس مفاجئاً أن يكتب الشاعر محمد تركي النصّار نصاً محكماً في بنائه ومعناه، فهو منذ كتابه الأول "السائر من الأيام" 1992، ما أنفك ينحت على مهل نصوصه، وبصوت خافت النبرات يصوغ إيقاعاً خاصاً به، حتى وإن كان ضمن شكل "قصيدة النثر"، ومن هنا يبدو يسيراً تمييزه عن شعراء جيله الثمانيني.

المفاجئ هذه المرة، وفي نصه الأخير الذي نشره على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن يكتب الشاعر النصّار عن حدث له ملامح واقعية - آنية وله دلالات لا تحصى، وهو ما حرص صاحب ديوان "ضفة ثالثة" 1996 على تجنبه طوال سيرته الشعرية منذ بواكيرها وصولاً إلى العقد الحالي، مروراً بما عاشه في مغتربه الكندي لنحو عقد ونصف العقد.

هنا ينتج لنا التلقي سؤالاً: ما هذا الخطب الشديد الوطأة الذي جعل شاعراً كالنصّار يخرج من مساره الشخصي النائي عن الراهن والحدثي، ليكتب عن واقعة محددة؟

لقد اختار النصارّ معادلاً موضوعياً عميقاً للتخلي عن مسار نصوصه لجهة علاقته بالواقع المباشر، فهو يكتب عن الشاعر الراحل إبراهيم الخيّاط الذي ودّعنا في رحيل عجيب يشبه مصادفات البلاد الأكثر عجباً:

"ابراهيم/ نجمك الذي يغط بإغفاءة/ تعب من التلويح/ لأكف المودّعين

البياض الوارف الذي يحف بجثمانك/ يتمتم بهمهمات الاعتذار التي لا تسمعها شلالات الدموع

الشموع وقارة الألغاز اقتطفتك/ والأيام أسدلت مخالبها/ على قصيدة النزاع المفروغ منه

بين سماء روحك العارية/ وهذه الأرض المرقّطة بأزاهير الدم وعذاب الضمير"

لنلاحظ صورة الشاعر الراحل الذي قدمته الإعلانات العابرة والسياسية بوصفه "شاعراً وطنياً" وقد تخلت عن ملامحها الخارجية، لينقب فيها النصّار بحثاً عن جوهرها المكنون، عن حيرتها ويأسها واضطرابها "النزاع المفروغ منه بين سماء روحك العارية/ وهذه الأرض المرقّطة بأزاهير الدم وعذاب الضمير".

الشاعر النصّار ما انشغل، عبر نصه الفريد في أساه وفجيعته، في المباشر من حياة صديقه الراحل ولا المباشر من وقائع بلاده، انه ذهب إلى العميق من معنى فقدان شاعر نبيل، ومع فقدانه يضيق الوطن:

"اتعبت يا ابراهيم/ من هذه القابلة الأبدية التي نسميها الحياة/ وقد اختارت أخيرا/ أن تسرق مفاتيحك الذكية اللامعة/ لتهديها لأسراب متوحشة".

هذا هو الجوهري، هذا هو معنى الفقدان والخذلان حين لا تبدو "المفاتيح الذكية" قادرة على فتح مغاليق أقفال الحياة الثقيلة، ذلك أنها حياةٌ مكلفة بل باهظة وغبية إن شئت مقابل مفاتيح رشيقة وذكية، هي روح الشاعر الراحل والمعنى الحقيقي الذي رفعه لمرتبة "القدّيس الوطني" في رحلته إلى "عمق السديم المستحيل".