أجرت "طريق الشعب" حوارات ضافية مع الرفيق حميد مجيد موسى السكرتير السابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حول قضية تحالفات الحزب.

ننشر في ادناه الجزء الثاني من خلاصة ما طرحه الرفيق "أبو داود"، بشأن الموضوع.

الحزب الشيوعي العراقي، وهو يناضل من اجل انجاز المرحلة الديمقراطية في العراق، لابد له ان يحدد المهمات التي هي اركان اساسية لإنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.

ركنٌ أساس من هذه الأركان، هو حل المسألة القومية. وفي العراق، القضية القومية لا تقبل النكران ولا تحتمل التجاهل.

فمند تشكل الدولية العراقية الحديثة - أي منذ تأسيسها، واقامة الحكم الملكي واعلان الدستور الاول، كانت لدينا مشكلة اسمها "المسألة القومية"، والابرز هي مسألة القومية الكردية، كونها القومية الرئيسة الثانية، دون ان نبخس حق القوميات الاخرى  الموجودة في البلد. فالاتفاقيات الدولية التي قسمت العالم العربي، بعد تقاسم تركة  الاحتلال العثماني، لم تعط للشعب الكردي حقه القومي في تأسيس دولة مستقلة.

وعلى هذا الأساس، نقول: إنه من يريد أن يبني عراقا ديمقراطيا اتحادياً، لابد أن يضع برنامجا سليما وعلميا لحل مسألة القضية القومية. هذا هو المرتكز الأساسي لعلاقات عميقة وبعيدة المدى مع ممثلي القومية الكردية ومع الاحزاب السياسية التي تطرح نفسها ممثلا للمطالب القومية للشعب الكردي.

إن حل مشكلة القضية القومية، جزء أساس من مهمات حزبنا التي يناضل من اجل حلها ديمقراطياً وسلمياً في المرحلة الحالية، بجهوده وبجهود ممثلي الشرائح الاجتماعية المعنية في الشعب الكردي.

حيث كان لزاماً علينا، بدلا من تقوية النزعة الانعزالية المنكفئة للمطالبة بالحقوق القومية، وكأن الأمر قضية كل الأكراد ضد كل العرب.. كان علينا جعلها قضية وطن وقضية بناء دولة حديثة.

ومبكراً، طرحنا برنامجاً لحل هذه المسألة، وسعينا لإشراك ممثلي أبناء القومية الكردية، والتأثير على مواقفهم باتجاه ربط قضيتهم بقضية الديمقراطية في العراق.

وعمل الحزب بوجهة هدف مشترك مع القوى الكردستانية، من أجل جعل المطالبة بالحقوق القومية وتأمين مستلزمات التطور القومي للشعب الكردي مرتبطاً بقضية الديمقراطية في العراق، وان الديمقراطية هي البيئة السياسية والمحيط السياسي الصحيح لحل مسألة القومية.

هذه الحقيقة، تبلورت وترسخت، وكانت ولا تزال حقيقة ثابتة. ومتى ما اختلّت هذه المعادلة – معادلة القضية القومية والتطور الديمقراطي في العراق - تحصل الكوارث والمعاناة.

 فأي موقف انعزالي او متطرف من جانب القوى الكردستانية، يلحق اذى حقيقياً بمسألة القومية الكردية، وأي موقف شوفيني متعصب من جانب القوى العربية يلحق الخسائر والهزائم بقضية الديمقراطية.. والتاريخ شاهد على هذا القول.

وقد أشرت إلى أننا في الحزب الشيوعي العراقي، تبنينا موقفاً متطوراً من المسألة الكردية، منطلقين من موقف مبدئي، ألا وهو "حق الأمم في تقرير المصير". فهذه أطروحة ماركسية بالأساس تبنتها عصبة الأمم المتحدة سابقاً، وحاليا ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة. حيث أصبح هذا الحق، جزءا أساسيا من المبادئ الدولية لحقوق الإنسان.

ما الذي يعنيه "حق تقرير المصير"، أنه ببساطة كل ما ترغب في تحقيقه الشعوب، بما فيها حق الانفصال.

لكن حق تقرير المصير، يتضمن خيارات أوسع من مجرد الانفصال، بل وأفضل منه أحياناً. فأي شكل من أشكال الوحدة الطوعية، هو أفضل من خيار الانفصال في كل المعايير. ولكن بشرط، إلا يشعر طرف انه مُستَغَل أو مُضطَهَد أو مظلوم من طرف آخر.

وهناك أمم وشعوب تتعايش في دولة واحدة وفق علاقات مبنية على أسس من الاحترام المتبادل وأسس الطوعية والاختيارية وضمان الحقوق.

ولحق تقرير المصير تطبيقات عديدة متنوعة تاريخياً وفي الحاضر، تعتمد على الزمان والمكان وتوازنات العلاقات السياسية والظروف الدولية والإقليمية المحيطة كعوامل مؤثرة في البلد الواحد.

فالحزب تبنى "حق تقرير المصير"،  كيف ترجم هذا الموقف على الصعيد العراقي؟

كانت حقوق القوميات تطرح بشكل عام، وفي بعض مراحل تاريخ الدولة العراقية، حيث أنها لم تكن تتعدى الحقوق القومية الثقافية، ولاحقا تطورت الى الحكم الذاتي.

فبعد ثورة 14 تموز 1958، كانت مجرد الإشارة الى  ان العرب والاكراد "شركاء في الوطن " بدون تحديد لطبيعة هذه الشراكة، يُعَدُّ انجازاً في الفهم السياسي العراقي والثقافة السياسية العراقية السائدة.

فالثقافة السياسية الحاكمة، كانت ثقافة استعلائية، قائمة على استعلاء قومي يعتبر القوميات  غير العربية هي قوميات من الدرجة الثانية، على الرغم من وجود وزير او مسؤول هنا وهناك. ولا يعني وجود هؤلاء في الحكومة، مؤشراً على ان الحقوق كانت متيسرة، فالاضطهاد القومي والطائفي كان موجوداً ولم يُلغَ بمجرد وجود مسؤول حكومي من هذه القومية او تلك الطائفة.

بعد ذلك فرضت الحاجة الحياتية صياغة مفهوم "حق تقرير المصير"، بشكل يوضح مدلولاته وتجلياته العملية. ونشب في خضم ذلك، صراع لم يكن فكرياً أو سياسياً فقط، بل تحول احياناً إلى صراع دموي واقتتال في كردستان العراق .

وفي خضم هذا الصراع الذي استمر طويلا، تبلور مشروع الحكم الذاتي باعتباره شكلا ملموسا لتطمين الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي. وصدر لاحقا في سبعينات القرن الماضي قانون الحكم الذاتي، وتشكلت الادارة الذاتية والمجلس التشريعي للحكم الذاتي. كل هذه كانت خطوات متقدمة على طريق تحقيق تقرير المصير.

ولكن كلما تنتكس العلاقات السياسية تختل العلاقات القومية، وكلما تصاب قضية الديمقراطية بصدمة او هزة، تتعقد وتتعثر بل وتتراجع الحلول للمسألة القومية. وهذا ما عشناه في سنوات حتى بعد اصدار قرار الحكم الذاتي. صحيحٌ أن هناك قانوناً للحكم الذاتي، لكن شتان ما بين القانون والممارسة. وبسبب ذلك، اضفنا في شعارات الحزب وشعارات المعارضة آنذاك الحكم الذاتي الحقيقي لكردستان العراق .

ومع بداية تسعينات القرن المنصرم، فرضت تطورات الأوضاع في البلد والمنطقة والعالم  ولاسيما بعد احداث انتفاضة آذار عام 1991  ضرورة مراجعة ذلك . حيث نشأت الحاجة الى صياغة متطورة اخرى اوسع وأدق من "الحكم الذاتي"، فطرح شعار الفدرالية باعتباره شكلا متطورا للحكم الذاتي، يضمن صلاحية لامركزية اوسع للإقليم ويعطي فرصاً وامكانيات في المساهمة في القرار السياسي اكثر ما كان عليه الحكم الذاتي في صياغته القانونية الموجودة فعلا في الدستور العراقي السابق.

ولم يكن هذا التطور العملي سهلاً، فقد مرت مرحلة من الصراعات الفكرية بين الأحزاب الكردستانية ومع الحزب الشيوعي العراقي وحتى في داخله.

إذ إننا رفعنا شعار الفدرالية في الانتخابات الأولى لتشكيل حكومة الإقليم، وكان هو شعار القائمة الديمقراطية التي دعمها الحزب لخوض الانتخابات.. وبسبب ذاك حصل ما حصل من تشنجات سياسية سببتها نتائج الانتخابات وما رافق العملية من تزوير للإرادة الشعبية الكردية.

وقد عوتبنا في حينها، من قبل القوى الرئيسة في الإقليم، وتحديدا من قبل قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، على رفعنا شعار الفدرالية الذي أعتبر شعارا متقدما على كل شعارات القوى الكردستانية. وأكدنا لهم في حينها أن الهدف هو ليس سباقاً بين القوى لرفع الشعارات، وإنما كان الشعار ينطلق من حاجة لإعادة صياغة أفضل للحكم الذاتي انسجاما مع التطورات الجيوسياسية التي حدثت في الواقع  العراقي والمنطقة والعالم.

وإلى يومنا هذا، لا نزال نؤمن نحن الشيوعين العراقيين، أن الفدرالية هي أفضل صيغة للعلاقات القومية للشعب الكردستاني مع المكونات الأخرى في إطار الدولة العراقية. ورغم ما يتمتع به الإقليم اليوم من صلاحيات، إلا أنه لم تستنفذ كل إمكانيات الفدرالية بعد، حتى يتم التخلي عنها.

فالفدرالية ثبتت في الدستور العراقي الجديد بعد العام 2003، وقبل ذلك في قانون إدارة الدولة العراقية، وقبل العام 2003 كانت مثبتة في وثائق المعارضة العراقية.. ولكن ماهي ابعادها، وماهي ترجمتها العملية على صعيد الادارة السياسة والاقتصادية؟ نعتقد بأن الجواب، هو أن الفدرالية لم تأخذ مداها الفعلي، لا في الاتفاقات السياسية ولا في التطبيق العملي. واستعضنا عن الاتفاق المؤسسي بصفقات تعقد بين هذا الطرف السياسي وذلك لهذا الغرض وغيره. وبسبب هذا تحدث الازمات وتناقض الأطراف بعضها، وتنهار الصفقات وترمى "الفدرالية" بالحجارة!

ختاما، لا بد من التأكيد أن حق تقرير المصير، يجب ألا يختل الايمان به لدى الشيوعيين، كحق ثابت لكل الأمم والشعوب. ويجب ايضاً، عدم الخلط بين المبدأ السليم والممارسات الخاطئة التي قد تذهب بالمعنى الحقيقي.

ووفق هذا المبدأ، كنا نحرص دائماً على اقامة علاقات مع الاحزاب الكردستانية  في النضال ضد الدكتاتوريات - في الكفاح المسلح وفي النشاط السياسي، وعقدنا معهم جبهات وتحالفات حتى حينما كانت القوى السياسية العراقية الأخرى تنظر نظرة قاصرة الى القضية القومية  للشعب الكردي .

لكن ليس في كل الظروف والاحوال كانت العلاقات الثنائية مع القوى الكردستانية جيدة ومتطورة. ففي لحظات اختلت هذه العلاقة وحصلت صدامات، وحتى صدامات دموية، وارتكبت اخطاء بحق الحزب الشيوعي واتخذت مواقف سياسية خاطئة تنطلق من مصالح حزبية ضيقة كالعلاقة مع الحكومات مقابل التفريط بالعلاقة مع الحزب الشيوعي.

نعم، عمدت العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والقوى الكردستانية بالدم، واستمرت طويلا، لأنها ليست علاقة عابرة ومزاجية وظرفية، بل هي حاجة موضوعية باعتبار القضية القومية جزءا اساسيا من قضية الديمقراطية في العراق والتي هي العنوان الاساسي للنضال  في الوقت الحاضر.