يتحدث الجميع، في عصرنا الراهن، عن الديمقراطية وسعيهم اليها والتزامهم بها، وبينهم ليس أولئك الذين يمثلون قوى سلطة رأس المال حسب، وانما، أيضاً، الأحزاب القومية اليمينية والفاشية، تلك القوى التي تناهض الديمقراطية ، رغم ادعائها بأنها تناصرها وتؤمن بها.

ويكشف هذا الواقع، من بين أمور أخرى، عن القوة الفكرية لمفهوم الديمقراطية في العالم المعاصر. وقد كان هذا، على وجه التحديد، الشعار الذي رفعه مناهضو "الاشتراكية" في "ربيعهم" المزعوم للاطاحة بالأنظمة "الاشتراكية".

ومن الطبيعي أنه يستحيل فهم موضوعة الديمقراطية دون المرور بما قدمه ماركس من إرث عظيم للبشرية، وبينه رؤيته للديمقراطية، على الرغم من أنه لم يتمكن من تخصيص مبحث مستقل لها. وبوسعنا أن نجد آراءه في هذا الشأن موجودة في الكثير من مؤلفاته وكتاباته، وبشكل خاص (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) و(نقد برنامج غوته).

وبات من الضروري، اليوم، أن نعود الى أفكار ماركس، خصوصاً ارتباطاً بأزمات الرأسمالية، وبينها، بالطبع، الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث ماتزال تتوفر ظروف مؤاتية للقوى المتحكمة بالاقتصاد العالمي لتفرّغ هامش العمل السياسي من مضمونه، وحيث الدولة لا يمكن الا أن تنحاز لمصالح المالكين.

وعلى الرغم مما حققته الحركات المكافحة من أجل المساواة السياسية، والاعتراف بحق الاقتراع، من بين غايات أخرى، تظل الطاقة التحريرية لهذه الانجازات محدودة تماماً بسبب تعاظم التفاوت الطبقي، وتأثير ذلك على الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للناس. وقد أشار ماركس الى أن الاقتراع أداة عاجزة عن تقرير مسيرة الدولة، ومن هنا ولد الشعار الشهير: "لو كان الاقتراع ينفع فعلاً لمنعوه !".

وتتميز آراء ماركس بشأن الديمقراطية بعمقها. والأكثر تجلياً بينها هو أن الدولة والبيروقراطية تشكلان أدوات لادارة مجتمع منقسم وفقاً لمصالح الطبقة الحاكمة.

الثامن عشر من برومير

وفي (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، الجدير باعادة القراءة كل حين،  نجد أكثر مساجلات ماركس عمقاً.

يقول هيغل في مكان ما إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، اذا جاز القول، مرتين. وقد نسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كملهاة، حسب ماركس.

ونص ماركس المميز (الثامن عشر من برومير ...)، الذي كتبه عام 1852، هو نص جميل، رفيع، مليء بالدروس. وفي مقدمته للطبعة الألمانية الثالثة عام 1885 يقول انجلز "لقد كان، في الحق، عملاً عبقرياً. فقد طلع علينا ماركس مباشرة بعد الحادث الذي داهم عالم السياسة كله كأنه صاعقة انقضت من السماء الصافية ... الحادث الذي لم يثر الا دهشة الجميع والذي لم يفهمه أحد... طلع علينا بعرض موجز، ساخر، لاذع، رد فيه معجزة الثاني من كانون الأول (الثامن عشر من برومير حسب التقويم الفرنسي القديم حيث قام لويس بونابرت بانقلابه الشهير) الى كونها نتيجة طبيعية وضرورية لمجرى التاريخ الفرنسي وعلاقاته الداخلية. وهو إذ فعل ذلك لم يكن البتة في حاجة الى أن يعامل بطل الانقلاب بغير الاحتقار الذي يستحقه تماماً ...".

وفي الكشف عن النزعة الدكتاتورية يقول ماركس في إطار مسعاه لتحليل البونابرتية: "صحيح أن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم ... إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط ... نراهم يلجأون في وجل وسحر الى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم، وفي هذه اللغة المستعارة ...".

وهكذا يتجلى درس آخر من دروس (الثامن عشر من برومير). فالدكتاتور لم يصل الى السلطة الا بفضل تضافر وتحالف القوى المستاءة من الوضع القائم، حيث هبّت كل الفئات، وبينها البروليتاريا، لتختار الأمير الذي تجسدت فيه أمجاد الامبراطورية الأولى. ومن الطبيعي أن النظام "البونابرتي" الجديد بحاجة الى "شعبية" رخيصة، الى تجار سياسة وثقافة، الى آيديولوجية زائفة، وتاريخ مزور، وحاضر ملفق، حيث يتكاثر الدجالون، مثل نبت شيطاني، في أزمنة الفوضى، وهو ما يمكن أن نجد تجلياته في أيامنا المليئة بالمآسي والمهازل !

وفي (الثامن عشر من برومير) يرى ماركس أن الدولة قوة قمعية، ويبرز أهمية شبكة معلوماتها بوصفها آلية مراقبة، ويشير الى كيفية تشابك استقلاليتها السياسية وقدرتها على اعاقة الحركات الاجتماعية التي تسائل الوضع الراهن. وفضلاً عن ذلك فان البعد القمعي للدولة يتكامل مع قدرتها على ترسيخ الاعتقاد بتأبيد الوضع الراهن.

لقد سحب بونابرت السلطة السياسية من ممثلي البرجوازية، لكنه وفر الحماية لقوتهم المادية، وبالتالي كان نابليون الثالث مضطراً لدعم المصالح الاقتصادية للبرجوازية على المدى البعيد بغض النظر عن قراراته في ما يخص الحكم.

ومن ناحية ثانية اعتبر ماركس أن التفكير بانعدام العلاقة بين توزيع الملكية وبنية السلطة السياسية أمر مستحيل. وهذا ما يناقشه في عدد كبير من نصوصه، وخصوصاً في أكثرها أهمية واثارة للجدل مثل (البيان الشيوعي). وبالنسبة لماركس وانجلز هناك علاقة تبعية مباشرة بين الدولة والقوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة المهيمنة، أي أنها ""بنية فوقية" ترتكز على أساس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. 

وفي (البيان الشيوعي) وفي أعمال لاحقة أشار ماركس وانجلز الى أن الخطوة الأولى في الثورة التي تقوم بها الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا الى مصاف الطبقة الحاكمة "لتكسب المعركة من أجل الديمقراطية". وكما كتب ماركس في (نقد برنامج غوته) فانه "بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تكمن فترة التحول الثوري من واحد الى آخر. وترتبط بهذا، أيضاً، فترة التحول السياسي التي لا تكون فيها الدولة شيئا سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا". وتحدث عن امكانية التحول السلمي في بعض البلدان التي توجد فيها بنى دستورية راسخة، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، فيما أشار الى أنه في بلدان أخرى، حيث العمال لا يستطيعون تحقيق هدفهم بالوسائل السلمية، لابد أن تكون رافعة الثورة هي القوة، حيث للعمال حق التمرد اذا ما حرموا من التعبير السياسي. وفي (مبادئ الشيوعية)، واستجابة لسؤال: ما الذي سيكون عليه مجرى هذه الثورة ؟ كتب انجلز يقول إنه "قبل كل شيء ستقر دستوراً ديمقراطياً، وتفرض، عبر ذلك، هيمنة االبروليتاريا المباشرة أو غير المباشرة".

ومعلوم أن فكر ماركس كان يشتمل على التراث الديمقراطي الذي خلقه عصر التنوير، وكان يخوض الكفاح لتأسيس وتطوير الديمقراطية من خلال صراع العمال ضد البرجوازيين الذين كان حكمهم يتسم بالدكتاتورية. ومن المهم القول، في هذا السياق، إن مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا" استخدم مقابل "دكتاتورية البرجوازية"، ذلك أن الرأسمالية في القرن التاسع عشر لم تكن ديمقراطية، وانما بلورت هذا الاتجاه في أعقاب الحرب العالمية الأولى بعد أن اتضح لديها أن الديمقراطية تضمن وجود نظام رأس المال. وكان مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا" قد استند الى ديمقراطية الأغلبية (أي الطبقة العاملة) ضد الأقلية (أي البرجوازية). غير أنه في سنوات الحكم السوفييتي (الستاليني خصوصاً) جرى تجاهل حقيقة أن الاشتراكية تقوم على أساس الديمقراطية لا على أساس الاستبداد.

ومن ناحية أخرى أعاد لينين في كتابه المهم (الدولة والثورة) بناء وتعميم أفكار ماركس حول كومونة باريس وسعى الى تكييفها مع فكرته حول "جمهورية السوفييتات". لكن لينين لم يأخذ بالحسبان الآراء المتأخرة لماركس، أو بشكل خاص آراء انجلز حول المؤسسات البرلمانية والاقتراع العام كأدوات تحررية محتملة في خدمة الطبقة العاملة، وهي آراء أقل حدية مما ظهر في كتاباته الأولى. وقد جرت استعادة هذه الآراء من قبل منظري الأمميتين الثانية والثالثة. وجرت جدالات كثيرة في هذا الشأن أكدت، في الغالب، التلازم بين الاشتراكية والديمقراطية الحقيقية.

أفكار لامعة

ويصعب علينا، في هذا السياق، أن لا نعود الى أفكار روزا لوكسمبورغ اللامعة، والتي تجلت، بشكل خاص، في نزاعها مع بيرنشتاين وكاوتسكي، وفي نقدها للينين.

ويبقى رد لوكسمبورغ على بيرنشتاين في بحثها الموسوم (إصلاح اجتماعي أم ثورة) - 1899 إحدى الاجابات الأكثر ابداعاً على الأوهام التي يخلقها استقرار الرأسمالية. فقد أكدت على أن تحقيق المساواة القانونية أو السياسية في ظل الرأسمالية لا يحل ولا يمكن أن يحل التناقضات الاجتماعية الأساسية لنظام يعتمد على انتاج القيمة والاستغلال الطبقي والعمل المأجور. وهي لم تضع الاصلاح في معارضة الثورة. وقد دعمت توسيع الحقوق الديمقراطية عبر وسائل قانونية. غير أنها أكدت على أن تحقيق الديمقراطية الحقيقية مستحيل في إطار العلاقات الرأسمالية للانتاج. وكما أشارت لاحقاً فان "الاشتراكية الديمقراطية أكدت دائماً على أن الديمقراطية الكاملة، الحقيقية والفعالة، وليس الديمقراطية الشكلية، يمكن تحقيقها فقط عندما تصبح المساواة الاقتصادية والاجتماعية، أي النظام الاقتصادي الاشتراكي واقعاً ...".

وكان لدى لوكسمبورغ ولينين عدد من الاختلافات السياسية، خصوصاً في ما يتعلق بالمسألة القومية، إذا ما أخذنا بالحسبان دعم لينين حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها. كما أن لوكسمبورغ اختلفت مع ما اعتبرته تأكيد لينين المبالغ فيه على المركزية التنظيمية. غير أن آراءهما كانت متوافقة، الى حد كبير، حول ثورة 1905 وآثارها العالمية. وفي أيار وحزيران 1907 شاركت لوكسمبورغ في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي المنعقد بلندن، حيث انتقدت، بشدة، المناشفة على كونهم ذيليين للبرجوازية الليبرالية، وأكدت دعمها للمنهج العام للبلاشفة. والأكثر أهمية أنها سعت الى ربط دروس ثورة 1905 بصورة مباشرة بإرث ماركس، مشيرة الى أن "الاشتراكية الديمقراطية الروسية هي الأولى التي وقعت على عاتقها المهمة الشاقة، ولكن المشرفة، لتطبيق تعاليم ماركس لا في مجرى فترة من الهدوء البرلماني في حياة الدولة، وإنما في فترة ثورية عاصفة".

وتكتسب مواقف فكرية عديدة لروزا لوكسمبورغ أهمية تاريخية وواقعية فائقة، وبينها ردودها على بيرنشتاين التي أشرنا الى بعض منها، وكفاحها ضد التحريفية، وفضحها ليمينية كاوتسكي، واستخلاصها الدروس من ثورة 1905 في روسيا، وخصوصاً ما أوردته في كراسها المهم الموسوم (الاضراب الجماهيري، الحزب، النقابات) - 1906، فضلاً عن موقفها من الحرب. غير أنه يصعب علينا الدخول في تفاصيل كل هذه القضايا، على أننا لابد أن نضيء بعضاً من الجوانب الرئيسية لخلافها مع لينين.

ونجد الموقف الأكثر أهمية لفكرة روزا لوكسمبورغ حول الحاجة الى الديمقراطية الثورية في مقالتها الطويلة (الثورة الروسية)، المكتوبة عام 1918، والمنشورة عام 1922، أي بعد رحيلها. وبينما توجه المقالة انتقادات قوية للثورة البلشفية في أكتوبر 1917، يتعين علينا أن نتذكر أن هذا العمل دفاع عن ثورة أكتوبر. وإذ كتب بينما كانت في السجن بسبب معارضتها للحرب العالمية، فانه أثنى على البلاشفة لجرأتهم ومبادرتهم. غير أنه في الوقت ذاته - وهذه النقاط هي التي أثارت الاهتمام الأكبر - انتقدت لوكسمبورغ، بحدة، عدداً من سياساتهم عند استلامهم السلطة، من منح الأراضي للفلاحين والاستمرار في الاصرار على حق تقرير المصير، حتى تشتيت الجمعية الدستورية. وركز نقدها الشديد على قمع الديمقراطية الثورية من جانب لينين وتروتسكي. وكانت لوكسمبورغ عميقة القلق من أن ميل البلاشفة لكبت حرية التعبير والصحافة والتجمع عرض للخطر الحركة ذاتها نحو مجتمع اشتراكي. وقالت إن الاشتراكية والديمقراطية متلازمتان على نحو لا ينفصم، ولا يمكن إنجاز واحدة دون الأخرى. وفضلاً عن ذلك فان لينين وتروتسكي، باحتكارهما السلطة بيد حزب واحد، غامرا بتدمير أساس التطور الثوري لروسيا. وفي تأكيدها الحاجة الى حرية الفكر والتعبير العفوي بعد الاطاحة بالنظام القديم طرحت لوكسمبورغ واحدة من أهم وأصعب المسائل التي واجهت الحركة الماركسية: ما الذي يحدث بعد الثورة ؟ ما العمل لضمان أن طبقة جديدة أو بيروقراطية لا تستولي على السلطة لاحقاً ؟ هل يمكن لعملية ثورية أن تستمر "دائمة" حتى يمكن تحقيق تجاوز الاغتراب ؟

واكتسبت هذه المسائل قوة أعظم منذ نشوء الاستبداد الستاليني من داخل الحركة الماركسية، والانهيار اللاحق للأنظمة الستالينية بعد عقود من القمع والارهاب، وهو تطور لم تعش لوكسمبورغ نفسها لتشهده. وهذه المسائل دليل على بصيرة لوكسمبورغ من أن نقدها للثورة الروسية، الذي طرح في سياق تاريخي مختلف جذرياً، يعالج، على نحو مقنع، مسألة هي، اليوم، في أذهان الملايين ـ هل هناك بديل لكل من الرأسمالية القائمة ومناوئيها البيروقراطيين، الاستبداديين ؟

وفي الفترة الأخيرة ظهرت مسألة جديدة في ما يتعلق بنقد لوكسمبورغ للثورة الروسية تكشف عن أنه مقابل "جرأة" لينين، الذي أدرك الحاجة الى القفز على العوائق الموضوعية ونشر "الحدث الثوري"، جسد نقد لوكسمبورغ معارضة من ناحيتها للامساك بالمبادرة التاريخية. ولا يمكن أن يكون أي شيء أبعد عن الحقيقة. فلوكسمبورغ لم تعارض ثورة أكتوبر، بل ولم تبتعد عن الحاجة الى الاستيلاء على السلطة، كما نرى الأمر في كل شيء ابتداءً من نقدها بيرنشتاين حتى مساهمتها في ثورة 1918 - 1919 الألمانية. وكانت المسألة الأساسية بالنسبة لها سمة الاستيلاء على السلطة وما هي الخطوات التي يتعين اتخاذها بعد ذلك مباشرة من أجل ضمان أوسع ما يمكن من الديمقراطية الثورية. وكما كتبت في (الثورة الروسية) فانه: "عندما تستولي البروليتاريا على السلطة لا يمكنها أن تتبع، مرة أخرى، نصيحة كاوتسكي حول الاستغناء عن التحويل الاشتراكي للبلد على أساس أن "البلد متفرد" ... يتعين ويجب عليها، في الواقع، أن تشرع، حالاً، في الاجراءات الثورية بالطريقة الأكثر حيوية، والأكثر عناداً، وعلى نحو لا يرحم. وبكلمات أخرى يجب عليها أن تمارس الدكتاتورية، ولكن دكتاتورية الطبقة لا دكتاتورية الحزب أو النخبة، وتعني دكتاتورية الطبقة الارتباط بأوسع وأنشط مشاركة غير مقيدة للجماهير في ديمقراطية لا حدود لها".

وبالنسبة للوكسمبورغ "فان المهمة التاريخية للبروليتاريا، ما أن تستولي على السلطة، هي خلق ديمقراطية اشتراكية بدل الديمقراطية البرجوازية، وليس التخلص من الديمقراطية تماماً". وأكدت على أنها لن تقبل بأقل من ذلك لأن "الممارسة الاشتراكية تعني تحولاً روحياً كاملاً لدى الجماهير التي أذلتها قرون من الحكم الطبقي البرجوازي".

تلازم بين الاشتراكية والديمقراطية

تجلت مسألة الحقوق الديمقراطية، سواء حول كيفية خوض اليسار الكفاح ضد تقييد واعاقة الديمقراطية أو المشاركة في الاحتجاجات ضد القوى المحافظة أو اليمينية، تجلت على نحو بارز ومثير للجدل في صفوف قوى اليسار في العقود، وربما السنوات الأخيرة خصوصاً.

وكاسهام في ذلك درس باحثون ماركسيون مقاربة التقليد الماركسي لهذه المسألة، بالعودة الى ماركس، الذي أظهر، من الناحيتين النظرية والعملية، وعلى نحو لا لبس فيه، كيف أن الكفاح من أجل الاشتراكية والكفاح من أجل الديمقراطية متلازمان.

ومن الناحية التاريخية سعى الاشتراكيون لا الى تقييد الديمقراطية، وانما الى أرحب توسيع ممكن لها. إن بعض الأحداث الثورية الأكثر أهمية في التاريخ المعاصر – الغاء العبودية، اقرار حق الاقتراع، الاعتراف القانوني بحق التنظيم النقابي، حرية التجمع والاحتجاج – كانت تدور، جزئياً أو كلياً، حول كسب الحقوق الديمقراطية وجعلها واقعية وهادفة.

وبالنسبة لماركس وانجلز كانت الاشتراكية والديمقراطية متلازمتان منذ المراحل الأولى للكفاح التي كانا جزءاً منه في أواسط القرن التاسع عشر. والمسألتان مترابطتان في نظرية ماركس التي تتحرك باتجاه تحديد الديمقراطية الحقيقية بتوصيفات اشتراكية والاشتراكية الحقيقية بتوصيفات ديمقراطية. وهذا ينبع من المسألة الأكثر جوهرية في الماركسية التي تؤكد أن الاشتراكية يجب أن تكون التحرير الذاتي للطبقة العاملة ولا يمكن تحقيقها نيابة عنها.

ان هدف الثوريين ممكن فقط ارتباطاً بفعل الجماهير الواعية لطبقة الأغلبية في المجتمع، وذلك يستدعي التوسيع الأكمل للديمقراطية، سواء حقق العمال الديمقراطية على أساس أفعالهم وتنظيماتهم الخاصة، أو بالاعتماد على الحقوق المؤسسة في ظل النظام القائم، ويجري الدفاع عنها عبر تعبئة الطاقات من أجل ذلك.

أما المدافعون عن النظام الراسمالي فيحتاجون الى العكس. انهم بحاجة الى تقييد واحتواء المشاركة الجماهيرية، سواء في اطار النظام السياسي، أو في أفعال وحركات خارجه. ولهذا فانهم يسعون الى تقويض أو تقليص أو حتى الغاء الديمقراطية. وهذا ينطبق ليس فقط على آيديولوجيي الجناح اليميني، الذين يحملون نظرة ازدراء واضحة للحرية الحقيقية، وانما، أيضاً، على الليبراليين الذين يضعهم دفاعهم عن الواقع الراهن، في معارضة أشكال تعبير الجماهير عن الديمقراطية، وعلى النحو الذي يهددها. وبالنسبة لماركس كان هذا الصراع – بين توسيع الديمقراطية وتقييدها – جزءاً أساسياً من الصراع الطبقي.

وكما أشار ماركس وانجلز في (البيان الشيوعي) فان ادارة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة لادارة الشؤون العامة للبرجوازية، التي نجد في داخلها، هي نفسها، صراعاً بين أقسامها، يؤدي الى خروج البعض خاسرين. غير أن المسألة الأساسية هي أن الدولة تمارس دورها في خدمة الطبقة الحاكمة ككل. إن أولويتها هي الحفاظ على أساسيات الوضع الراهن، وقبل كل شيء حكم الرأسمال للطبقة العاملة.

ان الماركسيين يتفقون على أن الديمقراطية في ظل الرأسمالية ليست ديمقراطية تماماً على الاطلاق. ولكن ذلك لا يعني أننا محايدون أو لاأدريون بشأن شكل الحكم السياسي في ظل الرأسمالية. فمن الواضح أنه من المهم جدا بالنسبة للاشتراكيين ما اذا كنا نعيش في ظل دكتاتورية أو في ظل ديمقراطية تمثيلية، حيث تجري انتخابات وتوجد حقوق سياسية.

ومعروف أن ماركس وانجلز شرعا بخطواتهما الأولى كثوريين في سياق النشاط السياسي كجزء من الجناح اليساري المتطرف للكفاح الديمقراطي ضد النظام الأرستقراطي القديم في ألمانيا وسائر أوروبا. ويعترف الباحثون الماركسيون، بل وحتى بعض خصومهم، بأنه ما من أحد أسهم في خوض الصراع من أجل الديمقراطية، في فترة حاسمة بالنسبة لذلك الصراع، كما فعل ماركس وانجلز.

وما أن نشر (البيان الشيوعي) أوائل عام 1848 حتى هبت موجة من الثورات مكتسحة أوروبا، ووضعت حكم النظام القديم موضع التساؤل. وكرس ماركس وانجلز كل طاقتهما لهذه التمردات الثورية ضد الطبقة الحاكمة القديمة. ولكنهما كانا، أيضاً، ناقدين لا يرحمان لأولئك المنتمين للنظام الناهض الجديد، الذي يمثل البرجوازية، بسبب امتيازاتهم وخيانتهم للجهود الرامية الى استبدال الأوتوقراطية بالديمقراطية. وبعد أن تراجعت الموجة الثورية، تاركة النظام القديم دون أضرار، كرس ماركس، مع ذلك، جزءاً من كتاباته لتحليل الدساتير الجديدة التي أعلن عنها في ذروة الصراع عام 1848.

إن السبب الذي يجعل الكفاح من أجل الديمقراطية مهماً جداً بالنسبة لماركس وانجلز هو أن الطبقة الحاكمة – سواء الرجعيين أو الليبراليين الذين يتحدثون بلغة التغيير – تريد أقل قدر ممكن من توسيع الحقوق والمشاركة السياسية، في حين أنه في مصلحة الطبقة العاملة الحصول على أكبر قدر من هذه الحقوق والمشاركة.

وبكلمات أخرى فان الكفاح من أجل الحقوق الديمقراطية هو جزء من ميدان الصراع الطبقي. إن هدف الاشتراكيين هو توسيع الديمقراطية والحرية الى أقصى حد ممكن في سياق النظام السياسي، وتوسيع الأشكال الديمقراطية ومبادئ الرقابة الشعبية خارجها، في الميدان الاقتصادي وفي سائر ميادين المجتمع.

لقد ظلت آراء ماركس بشأن الكفاح الديمقراطي حجر الزاوية بالنسبة للاشتراكيين الذين جاءوا من بعده. وبوسعنا الاشارة، في هذا السياق، الى ما كتبه لينين في بداية حياته السياسية عام 1898 إذ أعاد التأكيد على مبدأ ماركس الأساسي في هذه المسألة: "إنه في مصلحة البروليتاريا وحدها أن يتحول النظام السياسي الى نظام ديمقراطي بالكامل".

وعبر كتاباته أكد لينين على الحاجة الى تبني كل المطالب الديمقراطية – حكومة جمهورية، انتخابات شعبية، حقوق متساوية للنساء، حق نقرير المصير للشعوب المستعبدة في امبراطورية القيصر – باعتبار ذلك اسهاماً في الكفاح الثوري ضد الرأسمالية. وكتب عام 1915 يقول إن "البروليتاريا لا يمكن أن تنتصر الا عبر الديمقراطية، أي منح التأثير الكامل للديمقراطية، وربط المطالب الديمقراطية بهذا الصراع في كل خطوة، وصياغتها على نحو أكثر حزماً ... وبينما توجد الرأسمالية فان هذه المطالب كلها لا يمكن انجازها الا كاستثناء، وحتى عندئذ، في شكل منقوص ومشوه. إن وضع أنفسنا على أسس الديمقراطية المتحققة، وعرض نواقصها في ظل الرأسمالية يضعنا أمام مهمة الاطاحة بالرأسمالية، ومصادرة البرجوازية، كأساس ضروري لالغاء بؤس الجماهير، واكمال كل الأشكال الديمقراطية".

الاصلاح .. الديمقراطية

في فضاء "اليسار" تتردد موضوعتان كلتاهما خاطئتان. ترى الأولى أن الاصلاح السياسي لا الثورة الاجتماعية، هو الذي يمكن أن يحقق أشواق الجماهير، بينما ترى الثانية أن الثورة الاجتماعية ليست مطروحة على مجتمعاتنا، بل لم تعد مطروحة حتى على المستوى العالمي.

ومن الطبيعي أن الثوريين حين يرفعون شعار التغيير من أجل الديمقراطية، فانما يستندون الى تحليل الواقع الملموس، ليحددوا هدفاً صحيحاً وممكناً. غير أننا، كماركسيين، لا ننسى أن الديمقراطية هي محتوى قبل أن تكون شكلاً. وسيكون من باب المقارنة العرجاء أن نتحدث عن الديمقراطية الليبرالية في مجتمع أوروبي مثلما نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع "العالم الثالث"، الذي يتسم، من بين أمور أخرى، بتاريخ من الاستبداد، وغياب الأسس المدنية، وتخلف التطور الرأسمالي. كما أننا لا يمكن أن ننسى حقيقة أن هذه الديمقراطية يمكن أن تكون في خدمة رأس المال، مثلما يمكن أن تكون في خدمة الكادحين.

إن مساعي القوى الاجتماعية المتنفذة، التي يضطرها تطور الواقع الى رفع شعارات زائفة للتكيف مع مسار الحركة الاجتماعية، أو اتخاذ مواقف سافرة لعرقلة حركة الجماهير، أن هذه المساعي ينبغي أن لا تدفعنا، في سياق ردود أفعال، الى تجاوز ما يحتمله الواقع، واللهاث وراء شعارات "يسارية طفولية" أو فوضوية أو عدمية، تعكس الجزع والتسرع وضيق الأفق.

ومن ناحية أخرى فانه لا يمكن فهم الاصلاح بمعزل عن الديمقراطية الحقيقية، التي هي جوهر الاصلاح. والاصلاح السياسي يختلف عن الاصلاح أو التغيير الجذري للنظام القائم. وتعد الديمقراطية سبيلاً الى التغيير السياسي في اطار النظام المدني أو الليبرالي. أما التغيير السياسي في الاطار الاجتماعي فمرتبط، جوهرياً، بالصراع الطبقي الذي يؤدي الى الاطاحة بالنظام السياسي والاجتماعي القائم.

ويدرك الماركسيون أن البرجوازية الليبرالية تمنح الاصلاحات بيد وتسترجعها بأخرى. ومن المؤكد أن كل ثقة بالاصلاحيين تعني انخداعاً للعمال.

أما اذا استوعب العمال رؤية ماركس، أي اذا أدركوا حتمية عبودية العمل المأجور طالما أن هيمنة رأس المال سائدة، فانهم يكتشفون تضليل الاصلاحية. غير أن هذا لا يمنعهم من استثمار الاصلاحات من أجل تطوير وتعميق كفاحهم الطبقي.

وتبين لنا أحداث التاريخ وتجاربه أن الماركسيين لا يتوانون، بل، بالعكس، يمضون قدماً، بكل عزم ووضوح، في طريق استثمار الاصلاحات والكفاح من أجل تحقيق المزيد منها.

إن تحريم أشكال العمل السياسي الشرعي واتخاذ موقف سلبي من الاصلاحات هو موقف عدمي يكشف عن افتقار الى خبرة الكفاح العملية، وسلوك عقيم يعكس قصوراً سياسياً وفكرياً.

ينبغي على الثوريين مكافحة الخنوع لضغوط المواقف "الصبيانية" و"الجمل الثورية" الجوفاء، والمزايدة بالشعارات البراقة، البعيدة عن الواقع الملموس، والتي تصب، في خاتمة المطاف، في المجرى ذاته الذي يحرك طواحين القوى المتنفذة. 

عرض مقالات: