وسط كل الضجة التي يثيرها خصوم ماركس تتجلى فكرة رئيسية واحدة:
أيّاً كان رأينا به، يظل ماركس راهناً وفاعلاً.
فمجلة (الايكونوميست) البريطانية، التي أنفقت عقوداً من الزمن في مناهضة الماركسية، نشرت موضوعاً مطولاً بمناسبة الذكرى الـ (200) جادلت فيه بـ "أن قادة العالم لابد أن يواصلوا قراءة ماركس، وأن النهاية السياسية للاتحاد السوفييتي لم تفعل شيئاً للتقليل من قيمة فهم ماركس لقوى الرأسمالية. والحق أن الأمر يبدو أكثر راهنية طالما أن بلداناً كثيرة في عالمنا تصارع من أجل توسيع الجور الاجتماعي. ان اعتقاد ماركس بالمجتمع اللاطبقي ربما يكون قد جعل منه البعبع الملتحي لمناهضي الشيوعية، غير أن تحليله الاقتصادي يبقى مسألة لا جدال فيها".
وفي المناسبة ذاتها كتب الفيلسوف البريطاني جيسون باركر في صحيفة (نيويورك تايمز) أن "الفكر الليبرالي البارع يتسم، اليوم، بالاجماع تقريباً، باتفاقه على أن موضوعة ماركس الأساسية – من أن الرأسمالية مدفوعة بصراع طبقي مثير للانقسام على نحو عميق، حيث الأقلية الحاكمة تستولي على فائض عمل الشغيلة، وهم الأغلبية، لتحقق لنفسها الأرباح – موضوعة صحيحة".
لقد أدت عواقب الأزمة المالية عام 2008 الى نهوض حركات شعبوية متنوعة في الغرب، سوية مع ادراك أوسع بأن الدمار الذي أطلق له العنان من جانب المصرفيين لم يكن جرثومة وانما سمة متأصلة من سمات النظام.
وبوسع المرء أن يرى جشع ذلك النظام في اضمحلال دولة الرفاهية في العديد من البلدان، وفي التركيز المتعاظم للثروة بيد كبار أثرياء العالم، وفي المحن التي تواجه أجيالاً جديدة. وبوسعنا القول إن ماركس يمكن أن يلقي نظرة على الغرب في حالته الراهنة ليرى أصداء اللحظة التي تلد أفكاره. وقد كتب الباحث السويدي البارز سفين إريك ليدمان في سيرة جديدة لحياة ماركس ان "ماركس القرن التاسع عشر هو الذي يستطيع أن يجتذب أناس القرن الحادي والعشرين".

صواب التحليل الماركسي

في عصرنا الراهن، عصر تطور الرأسمالية وتقدمها، نجد الكثير من الشروط والاتجاهات التي حددها ماركس في نقده للاقتصاد السياسي. وهذا يتجلى، الآن، أكثر مما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ويشير التقدم في أنظمة الأسلحة، والأزمة الايكولوجية، والتلوث الصناعي، المحفز لأزمة المناخ، واستمرار عدم الاستقرار المتأصل في النظام الرأسمالي، وهو ما تجسده حالات الركود، يشير الى الراهنية الأكيدة والأهمية الفائقة للتحليل الماركسي.
واذا ما أخذنا هذه القضايا بالحسبان، وهي ناجمة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن الشروط المادية التي تخلقها الملكية الخاصة والعلاقات الطبقية، نستطيع أن نرى أن هذا يضيء الأهمية الحيوية لطرحنا خطاب ماركس، وهو أبرز من حلل المفاهيم المادية والملكية الخاصة والعلاقات الطبقية.
واذا ما نظرنا الى راهنية ماركس ارتباطا بالتناقضات البنيوية المتأصلة في الراسمالية، بوسعنا أن نرى، في ضوء هذه الحقائق، الاضطرابات واسعة الانتشار في سائر أنحاء عالمنا. ويتعين علينا أن نعتبر أن الواقع الاقتصادي، اليوم، في ظل الرأسمالية (وهو ما سنتحدث بتفصيل عن سماته في حلقة مقبلة) تفسره النظرية الماركسية على نحو جلي.
ويوضح واقع العيش في عالم اليوم أن كل ما هو قائم في حياتنا هو نتاج مباشر لأسلوب الانتاج الرأسمالي. فكل المعطيات والنتائج التي تجلت منذ ظهور كتاب ماركس (رأس المال) تؤشر وتدعم، على نحو ساحق، تحليله العميق.
فالأزمة المضاعفة التي تواجهها البشرية، اليوم، تجعل الادراك العام لهذه الحقيقة، أكثر أهمية بما لا يقاس، ليس فقط لكبح جماح الآثار السلبية المدمرة للرأسمالية، وانما، أيضاً، لضمان حياتنا وبقاء النظام البيئي لكوكبنا.
ولعل من بين أفكار ماركس التي يؤكدها واقع اليوم أن رأس المال هو أساس تيار اغتراب البشر. وتتجلى صحة هذه المسألة، في الوقت الحاضر، اذا ما أخذنا بالحسبان طائفة المشكلات التي نواجهها وعجز المجتمع البرجوازي عن معالجتها، في ضوء حقيقة أن التكنولوجيا المعاصرة هي مفاتيح مجتمع ما بعد الرأسمالية الذي تخيله ماركس.
والسؤال الذي يطرحه باحثون ماركسيون معاصرون هو: هل تتأمل البشرية راهنية الماركسية، اليوم، أم ستستهلكها تناقضات الرأسمالية ؟

بعد 200 عام ماركس يبدو أكثر ثورية

كتب ماركس وانجلز قبل حوالي 170 عاماً في (البيان الشيوعي): "ان ما تخلقه البرجوازية، قبل كل شيء، هم حفارو قبرها. ان سقوطها وانتصار البروليتاريا أمران حتميان". غير أن ما هو معروف اليوم: أن الرأسمالية سائدة. وبصيغة المفارقة التاريخية التي سماها الفيلسوف هيغل مكر العقل، فان الرأسمالية عوّمت حفاري قبرها لكي تبقى حية.
فهل انتهى ماركس ؟ كلا، على الاطلاق. ان ما يجعل ماركس جديراً بالقراءة في أيامنا هو ليس تنبؤاته "المتفائلة"، وانما تشخيصاته التي تتردد أصداؤها. فعلى سبيل المثال تنبأ هو وانجلز بالكيفية التي تعمل بها العولمة. وقد كتبا: "بدلاً من الحاجات القديمة التي يشبعها انتاج البلد، نجد حاجات جديدة تتطلب لاشباعها منتجات وأماكن ومناخات أخرى بعيدة".
وقد يجد المرء صعوبة في قراءة الصفحات القليلة الأولى من (البيان الشيوعي) بدون التفكير بأنه يعيش في العالم الذي وصفه ماركس وانجلز: "التثوير المتواصل للانتاج، والاضطراب المتواصل للظروف الاجتماعية، والقلق والاثارة الدائمة، التي تميز العصر البرجوازي عن العصور السابقة". فنحن نعيش في عالم مثل هذا، ولكن أكثر كثافة مما تجرأ ماركس وانجلز على تخيله.
ان ماركس لم يتنبأ بالفيسبوك، ولكنه أدرك المباديء الضرورية لنموذج مارك زوكربيرغ في البزنس، بالتأكيد على نحو أفضل مما فعله أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في جلسات الاستماع الأخيرة. وكتب ماركس وانجلز على نحو جذاب أن "البرجوازية لم تترك أية صلة بين الانسان والانسان غير المصلحة الذاتية المجردة، و"الدفع النقدي" القاسي القلب. وقد اغرقت النشوة الالهية للاتقاد الديني، والحيوية الشهمة، والنزعة العاطفية البسيطة، في المياه الجليدية للحسابات الأنانية".
ان الفيسبوك، ناهيكم عن أمازون وغوغل، جعل من الناس موجودات قابلة للاستغلال. وهو ما يشير الى نوع من "العبقرية".
ولكن دعونا نتذكر ما كتبه ماركس في (رأس المال) عام 1867 حول صنمية السلعة، وهو ما يتسم بالراهنية المؤلمة بالنسبة لنا حالياً. فبذلك المفهوم كان يعني كيف أن الأشياء الاعتيادية التي ينتجها العمال – أجهزة الآيباد، والسيارات، وحتى الموجة الوفيرة من الكتب الجديدة التي تحيي الذكرى الـ 200 لميلاد ماركس – تصبح، في ظل الرأسمالية، أشياء غريبة على نحو يخلب الألباب. وكما أنه في بعض الحالات يوظف موضوع معين بقوى خارقة للطبيعة، ويصبح صنماً لمن يعبدونه، هكذا حال السلع في ظل الرأسمالية حيث ترتبط بقوى سحرية.
وعندما يباع جهاز الآيفون يجري تبادله بسلعة أخرى (النقود عموماً). والتبادل لا يأخذ بالحسبان ما أنجز لصناعة جهاز الآيفون، وكذلك حقيقة أن بعض عمال شركة (أبل) من ذوي الأجور المتدنية فكروا بالانتحار من أجل الهروب من حياتهم، وهم يصنعون الأجهزة الضرورية للآخرين. وقد كتب ماركس أن "السلعة، بالتالي، شيء غامض، ببساطة، لأنه فيها تظهر السمة الاجتماعية لعمل الناس، تظهر لهم كسمة موضوعية وهي تحمل شارة منتج العمل".
وقد جادل جورج لوكاتش، الذي ترك أثراً عميقاً على مفكري مدرسة فرانكفورت، بأن نمطاً جديداً من الكائنات الانسانية سيظهر في عالم تكون فيه صنمية السلعة سائدة. وأولئك الناس الجدد من التدني بحيث أن البيع والشراء هو جوهرهم: أنا أتسوّق، إذن أنا موجود.

كيف تواصل إرث ماركس

مازال عمل ماركس وصية حية للكيفية التي نفهم بها العالم المحيط بنا، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تصوغ حياتنا، وسبل مقاومة وانهاء الاضطهاد والظلم والتعاسة والبؤس الانساني.
وفي أحد أهم أعماله وأكثرها شهرة، ونعني (رأس المال)، فسر ماركس كيف أن أسلوب الانتاج الرأسمالي يقوم على الاستخلاص الضروري لفائض القيمة في استغلال العمال من أجل تحقيق الربح الرأسمالي. فكلما تدفع أجوراً أقل وتولي اهتماماً أقل بحياة الشغيلة، كلما تحقق أرباحاً أكثر للرأسمالي. وهذه القوة المحفزة تبقى سائدة في العالم.
كان ماركس يعتقد أن هذه الشروط ستقود الشغيلة، حتماً، الى الثورة من أجل الاستيلاء على وسائل الانتاج والاطاحة بأسلوب الانتاج الرأسمالي.
ان اغتراب العمل (وهو ما سنتناوله في حلقة مقبلة) هو أحد أكثر مفاهيم ماركس ملموسية، وهو ظاهرة تواصل تحكمها بالبنى الاجتماعية وتهديدها لانسانيتنا. غير أنه على الرغم من الفقر المدقع الذي تسببه العلاقات الاجتماعية الرأسمالية، تصور ماركس مخرجاً من هذا. فالشغيلة الذين يواجهون الاغتراب والاستغلال والبؤس سيتمردون ويستولون على وسائل الانتاج، ويطيحون بالنظام الرأسمالي، ويخلقون الأساس لشكل أكثر تكافؤاً وعدالة من العلاقات الاجتماعية، لا يبقى فيها مكان للترف والجوع.
لقد حشد ماركس، ورفيقه انجلز، في أوروبا سوية مع منظمة الشيوعيين طاقاتهم تحت شعار (يا عمال العالم اتحدوا !). وكان هذا هو السطر الأخير في (البيان الشيوعي) الذي كتبه ماركس وانجلز في أعقاب عودة ماركس من المنفى الى ألمانيا للمساهمة في ثورة 1848، التي انتهت الى الاخفاق.
ومع ذلك، وبالرغم من كل الاخفاقات، ماتزال أفكار ماركس تواصل الهامها للشغيلة والمثقفين والحركات الاجتماعية في سائر أنحاء عالمنا. ويشير (البيان الشيوعي) بوضوح الى أن "تاريخ المجتمع القائم هو تاريخ الصراع الطبقي".
ونحن نرى اليوم عاصفة الاحتجاج المتعاظمة ضد سلطة رأس المال الغاشمة، ممتدة في سائر أنحاء عالمنا، من احتجاجات المنظمات الاجتماعية المناهضة للجوع والعوز، من الارجنتين وبورتوريكو، مرورا باحتجاجات الشغيلة والمثقفين في قلب قلعة رأس المال باوروبا وأميركا، حتى الكفاح من أجل اعادة توزيع الأرض في الهند .. الشعوب، وهي تغذي "الحركة المناهضة للنظام الاجتماعي والسياسي القائم"، التي تحفز الشيوعيين وسائر الثوريين على مواصلة الكفاح من أجل عالم جديد.

نداء عمل لا ممارسة أكاديمية

من المؤكد أن ماركس وانجلز كتبا (البيان الشيوعي) لا كممارسة أكاديمية، وانما كنداء عمل. فهدفه لم يكن فقط الكشف عن اخفاقات النظام، وانما اظهار كيفية تحويله عبر الفعل الثوري لجماهير العمال والمضطهَدين.
ومن الطبيعي أنه بالنسبة لكل مصرفي متحمس بشأن نظرية ماركس في الأزمة، هناك شخصية "شهيرة" تزعم أن "ماركس ميت". وجاءت الموجة الأخيرة من من المزاعم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.. "الاشتراكية ماتت" ... "الرأسمالية انتصرت" ... و...
وجاء هذا الزعم وسط هوة متزايدة بين أغنياء وفقراء العالم، حيث موجودات ثلاثة من البليونيرية تزيد على اجمالي الناتج المحلي لجميع البلدان الأقل تطوراً، والتي يربو عدد سكانها على 600 مليون نسمة. وفي الولايات المتحدة تصاعدت، بشكل صاعق، رواتب ومخصصات المدراء التنفيذيين في سنوات التسعينات، بينما ظلت أجور العمال راكدة أو تدنت.
وهكذا، فانه على الرغم من محاولات ابعاده، يواصل ماركس عودته، فأفكاره حية لأن اتهامه للرأسمالية بأنها مجتمع طبقي يخلق ثروة هائلة للأقلية، للرأسماليين الأغنياء، على حساب الأكثرية من العمال والكادحين، وأنها مجتمع عرضة للأزمة الاقتصادية والحرب التي تؤدي الى بؤس الملايين، ان هذا هو ما يتواصل تأكيده بشكل يومي.
واذ يتفاقم البؤس فان التقسيمات الطبقية الواضحة تزكي ما جادل به ماركس من أن صراع الطبقات هو محرك التغيير التاريخي. وأكثر من ذلك فان أولئك الذين هلّلوا لسقوط الستالينية تركوا عاملاً هاماً: ان ما رحل من الشيوعية في الشرق - والذي كان في الواقع رأسمالية دولة بيروقراطية – يمهد الطريق أمام الجماهير لاعادة اكتشاف التقليد الماركسي الحقيقي الذي يقف خلف سنوات من التشويه في الشرق والغرب على حد سواء. وبعيداً عن أن تكون ميتة، فالماركسية تولد من جديد.
ويبدو ارث ماركس، اليوم، حياً وفاعلاً. ومنذ بداية الألفية الثالثة صدرت كتب لا حصر لها، من بحثية الى سير ذاتية، تقر، على نحو واسع، قراءة ماركس للرأسمالية، وراهنيتها المتواصلة في عصرنا الليبرالي الجديد. وفي عام 2002 أوضح الفيلسوف الفرنسي ألان بادو في مؤتمر بلندن بأن ماركس أصبح فيلسوف الطبقة الوسطى.
فماذا كان يعني ؟ نعتقد أنه كان يعني أن الرأي العام الليبرالي المثقف هو، اليوم، يجمع، الى هذا الحد أو ذاك، في اتفاقه على أن موضوعة ماركس الأساسية – من أن الرأسمالية يدفعها الصراع الطبقي التناحري على نحو عميق، والذي فيه تستولي الأقلية الحاكمة على فائض عمل أغلبية الشغيلة كربح – هي موضوعة صحيحة. وحتى الاقتصاديون الليبراليون مثل الأميركي نورييل روبيني يقرّون بأن قناعة ماركس بأن للرأسمالية ميلاً ينطوي على تدمير نفسها هي قناعة ما تزال تتسم بعمق البصيرة.
لكن هذا هو ما ينتهي عنده الاجماع على نحو مفاجيء. فبينما يتفق الأغلبية على تشخيص ماركس للرأسمالية، فان الرأي حول كيفية التعامل مع "اضطرابها" ينقسم تماماً. وهنا تتجلى أصالة ماركس وأهميته العميقة كفيلسوف.
أولاً، دعونا نكون واضحين: لم يتوصل ماركس الى وصفة سحرية للخروج من التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة المرتبطة بالرأسمالية المعولمة (وفقاً لمؤسسة أوكسفام فان 82 في المائة من الثروة العالمية في عام 2017 هي من نصيب أكبر اغنياء العالم الذين يشكلون واحد في المائة). غير أن ما حققه ماركس عبر فكره المادي هو الأسلحة النقدية لتقويض زعم الرأسمالية الآيديولوجي من أنها الشيء الوحيد القائم.
ومن أجل فهم أفضل للكيفية التي حقق بها ماركس تأثيره العالمي الدائم – وهو تأثير يشار الى أنه أكبر وأوسع ممن تأثير أي فيلسوف قبله أو بعده – يمكننا أن نبدأ بعلاقته مع هيغل. ما الذي اجتذب ماركس في عمل هيغل ؟ كما أخبر والده فان المواجهات الأولى مع "نظام" هيغل، الذي بنى نفسه على طبقة بعد طبقة من حالات النفي والتناقض، لم تجعله مقنعاً تماماً. واكتشف ماركس أن مثاليات ايمانويل كانت ويوهان غوتليب فيخته، التي هيمنت على الفكر الفلسفي في أوائل القرن التاسع عشر، أعطت الأولوية للتفكير نفسه – الى حد كبير، بحيث أن الواقع يستدل عليه عبر المنطق الفكري. ولكن ماركس رفض القبول بواقعهم. وفي تحايل هيغلي ساخر كان الضد الكامل: ان العالم المادي هو الذي يحدد كل أنماط التفكير. وكما أورد ماركس في رسالته فانه "اذا كان الآلهة قد أقاموا في السابق على الأرض، فقد أصبحوا الآن مركزها".
ان مفهوم المجتمع اللاطبقي سيحدد فكرة ماركس وانجلز حول الشيوعية، وكذلك، بالطبع، حول التاريخ اللاحق والمضطرب لـ "الدول الشيوعية" التي ظهرت خلال القرن العشرين. ومايزال هناك الكثير مما ينبغي تعلمه من كوارثها.
ان العامل الرئيسي في إرث ماركس الفكري في مجتمعنا الحالي هو ليس "الفلسفة" وانما "النقد"، أو ما وصفه في عام 1843 باعتباره "النقد القاسي لكل ما هو قائم: قاسٍ بمعنى أن لا يخشى المرء من النتائج التي يتوصل اليها، ومن الصراع مع القوى القائمة.
وفي الانتقال الى مجتمع جديد فان العلاقات بين الناس، بدلاً من علاقات رأس المال، هي التي تحدد، في خاتمة المطاف، قيمة الفرد وتبرهن على أنها مسالة هامة. ولم يقدم ماركس وصفة مناسبة للتغيير الاجتماعي. ولكنه قدم اختباراً فكرياً فعالاً لذلك التغيير. وعلى أساس ذلك فاننا مستعدون لمواصلة الاستشهاد به واختبار أفكاره حتى يتحقق ذلك النمط من المجتمع الذي كافح من أجله، والذي تتمنى أعداد متزايدة منا تحقيقه.

نزاع طبقي متعاظم

لقد ظل ماركس راهنا ومثيراً للجدل على الدوام ...
ولكن ما راهنية ماركس اليوم، عندما يبدو انتصار الرأسمالية كاملاً من الناحية الواقعية ؟ في ألمانيا الغربية، وخلال سنوات الحرب الباردة – عندما كانت برلين مقسمة بجدارها سيء الصيت – كان ماركس شخصية غير مرغوب بها، لكن يبدو أن هذا قد تغير الى حد ما منذ أن توحدت الألمانيتان. وفي الفترة الأخيرة أدى الفائض الرأسمالي الى استياء واسع، أثار، بالتزامن، انبعاثاً للاهتمام بنظريات ماركس، خصوصاً بقدر ما تتوافق مع الجور المتعاظم، وسخط الشغيلة في مختلف أنحاء العالم. وببساطة يمكن القول إن ما فكر به ماركس وانجلز من صراع طبقي لا ينتهي في ظل الرأسمالية بات جلياً اليوم، وإن بأسماء جديدة مثل 99 في المائة مقابل واحد في المائة.
دعونا نقارن المقطع التالي من (البيان الشيوعي) الذي كتبه ماركس وانجلز عام 1848، ونسأل أنفسنا عما اذا كان هناك أي شيء قد تغير جوهرياً:
"
ان تاريخ المجتمعات القائمة هو تاريخ الصراع الطبقي ... الانسان الحر والعبد، الأرستقراطي النبيل والعامي، السيد والقن، رئيس النقابة والعامل المياوم، وبكلمة واحدة المضطهِد والمضطهَد، يقفون في تعارض دائم، ويخوضون حرباً لا تتوقف، تارة مستترة، وأخرى علنية، وهي حرب تنتهي، في كل مرة، إما باعادة البناء الثورية للمجتمع ككل، أو بالتدمير الشامل للطبقتين المتصارعتين" ...
ان المجتمع البرجوازي المعاصر الذي نشأ من بقايا المجتمع الاقطاعي لم يتخلص من النزاعات الطبقية. لقد أسس طبقات جديدة، وشروطاً جديدة للاضطهاد، وأشكالا جديدة للصراع، بدلاً من الأشكال القديمة. غير أن عصرنا، عصر البرجوازية، يمتلك سمة مميزة، اذ بسط النزاعات الطبقية. فالمجتمع ككل انقسم أكثر فأكثر الى معسكرين كبيرين عدائيين، طبقتين كبيرتين تواجهان بعضهما مباشرة، البرجوازية والبروليتاريا.
يتعين علينا أن نأخذ بالحسبان أن هذا الذي اقتبسناه كتب في أواسط القرن التاسع عشر. وبقدر ما يستطيع المرء أن يرى فان التناقض الأساسي بين البرجوازية والبروليتاريا لم يتغير باستثناء ناحية واحدة: الأولى تقلصت الى مجموعة تشكل الآن ما يسميه الباحث السوسيولوجي الأسباني مانويل كاستيلز "النخب الحاكمة في العالم" أو ما تشير اليه حركة (احتلوا وول ستريت) باعتباره واحد في المائة، بينما الثانية (العمال أو 99 في المائة).
والحق أن الرأسمالية، اليوم، بينما ماتزال تكشف عن السمات التي ميزها ماركس (وانجلز) في القرن التاسع عشر، يمكن تصويرها باعتبارها مجتمعاً يضم طبقتي "الرابحين" و"الخاسرين" (اقتصادياً).
ومن بين أمور أخرى يهمنا أن نشير الى ما وصف بـ "حالة الطواريء الوطنية"، في عدد خاص من مجلة (تايم) سميت (يوميات الأفيون) – 5 أيار 2018 – قدمت شهادة بيانية عن عدد المصابين في المجتمع الأميركي الليبرالي الجديد.
ونشير هنا الى أن ملاحظة ماركس وانجلز حول نمط معين من التقسيم الطبقي كشيء متأصل في المجتمع الرأسمالي مسألة واضحة في الصور الفوتوغرافية المروعة التي نشرتها مجلة (تايم) والمقتطفات من المقابلات التي أجرتها.
وفي مقدمة هذا العدد من المجلة أشير الى أن الجرع المفرطة من المخدرات وحدها مسؤولة عن وفاة ما يزيد على 64 ألف شخص في الولايات سنوياً. والسؤال المطروح هو: لماذا يلجأ عدد كبير من الناس الى المخدرات مثل الهيروين، والذي يستحيل الخلاص من خطره ما أن يتورط المرء بتناوله. والجواب هو المجتمع غير المهتم الذي أنتجته الرأسمالية. وعلى الأقل في الديمقراطيات الاجتماعية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدول الاسكندنافية حيث تمتلك الرأسمالية ثقلاً موازناً في أنظمة الأمن الاجتماعي يكشف عن حس التواصل الاجتماعي الغائب عن المجتمع الأميركي، خصوصاً ما تفاقمه عقلية التنافس العنيف التي يشجعها ترمب.
ولكن من أجل تاكيد رأهنية ماركس انظروا الى المقتبس التالي من (البيان الشيوعي) الذي يكشف عن بصيرة ماركس وانجلز العميقة في عملية رأس المال، وهو من أشهر ما ورد في (البيان الشيوعي):
"
لا تعيش البرجوازية الا اذا أدخلت تغييرات ثورة مستمرة على أدوات الانتاج، وبالتالي علاقات الانتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها. وبعكس ذلك كانت المحافظة على أسلوب الانتاج القديم الشرط الأول لحياة الطبقات الصناعية السالفة. ان هذا التثوير المستمر في أساليب الانتاج، وهذا التزعزع المتواصل في كل النظام الاجتماعي، وهذا الاضطراب الدائم وانعدام الأمن والاطمئنان، هو ما يميز العصر البرجوازي عن كل العصور السابقة. فكل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة، وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والأفكار، التي كانت قديماً مقدسة، تنحل وتندثر. أما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها. وكل ما كان وطيداً ثابتاً يطير ويتبدد كالدخان، وكل ما كان مقدساً يعامل باحتقار وازدراء، ويضطر الناس، في خاتمة المطاف، الى النظر لظروف معيشتهم وعلاقاتهم المتبادلة بعيون يقظة لا تغشاها الأوهام".
أمازال ماركس راهناً ؟ عاش في القرن التاسع عشر، وهو عصر يختلف عن عصرنا، على الرغم من أنه بدأت تتشكل فيه الكثير من ملامح مجتمعنا الراهن. وربما تبدأ النظرة الى راهنية أفكار ماركس في بدايات القرن الحادي والعشرين عبر الفصل بين عناصرها التي عفا عليها الزمن، وتلك القادرة على التطور في الوقت الحاضر.
وفي سياق ذلك يتعين علينا أن نشير الى أن اقتصاد السوق الرأسمالي لم يكن نظاماً للتنظيم الذاتي أوتوماتيكياً. لقد سمى ماركس تلك الفترات "أزمات". واليوم نستخدم تعبيراً مختلفاً فنسميها "حالات ركود". والأحدث بينها، والتي بدأت بين عامي 2007 و 2008، تستحق اللقب الأقدم في ضوء حدتها ودوامها وتأثيرها العالمي.
في (رأس المال) يقدم ماركس عدداً من التفسيرات لظهور هذه الأزمات. والأكثر اثارة للاهتمام يأتي من عمله كمحرر للشؤون المالية والاقتصادية في صحيفة (نيويورك تريبيون) في خمسينات القرن التاسع عشر، والتي كانت أكبر صحيفة في العالم. وفي مناقشة أزمة عام 1857، والتي تعتبر أول ركود عالمي، ركز ماركس على سياسات (كريدت موبلييه)، وهو أول بنك استثمار في العالم. ولاحظ، بفزع، أن تشريعات البنك سمحت له باستدانة ما يصل الى 10 أضعاف رأسماله. واستخدم، بعدئذ، الصناديق لشراء أسهم أو اكتتابات عامة في صناديق لشركات سكك حديد وصناعية فرنسية، وهو ما أدى الى زيادة كبيرة في الانتاج. ولكن عندما لم يوجد مشترون للانتاج الموسع، اكتشف البنك أن الأسهم التي اشتراها قد هبطت قيمتها، مما جعل من الصعب اعادة دفع القروض. واذا ما استبدلنا كريديت موبيلييه ببنك ليمان بروذرز أو أنغلو آيرش، وشركات السكك الحديد والصناعية الفرنسية، بنيفادا أو آيرش للعقارات، ستكون لدينا صورة صحيحة للسبب الرئيسي للبشاعة المالية الحالية.
وهذا ليس للاشارة الى أن ماركس كان المفكر الوحيد الذي يتساءل عن التنظيم الذاتي الأوتوماتيكي للاقتصاد الرأسمالي. فقد كان جزءاً من تقليد اقتصادي معارض يبدأ بسيسموندي ويستمر مع بعض الانعطافات عبر جون مينارد كينز، وهيمان مينسكين حتى جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان. ومن أجل اقتراح سياسات محددة فان الشخصيات الأحدث ربما تكون الأكثر نفعاً. غير أن بصائر ماركس في القرن التاسع عشر ماتزال تقدم لنا سبلاً هامة للتفكير بالقرن الحادي والعشرين.
* * *
ان عمل ماركس، الفيلسوف السياسي، والمادي التاريخي، والمحلل الاقتصادي للرأسمالية ومجتمعها الطبقي ... والمقاتل الثوري، ان هذا العمل يمكننا من فهم الآليات الأساسية للرأسمالية وموقعها في تاريخ الحضارات، والتعلم من المد والجزر التاريخي للصراع الطبقي، كما أشار انجلز في كلمته وهو يودع رفيقه ماركس يوم 17 آذار 1883 في مقبرة هايغيت بلندن ..
وفي مقابلة مع (بي بي سي) عام 2011 سؤل الناقد الفني البريطاني الكبير جون بيرغر، بلهجة آسرة، لكنها تنطوي على الشك، حول الماركسية وما اذا كانت "ماتزال نافعة اليوم".
أجاب: "اذا ما نظرنا الى ما يحدث للعالم، والقرارات التي تتخذ كل يوم، وهي قرارات تتخذ باسم أولوية واحدة، هي الربح المتعاظم أبداً .. فان ماركس لا يبدو، عندئذ، مهجوراً أو عفا عليه الزمن".
وقد كانت مثل هذه المقابلات شائعة. ففي عام 2002 سؤل المؤرخ البريطاني الكبير إريك هوبسباوم، مرة تلو أخرى، من جانب الصحفي البريطاني البارز جيريمي باكسمان عما اذا كان التزامه بالشيوعية وهماً. أجاب، معتداً بكرامته أمام جحود باكسمان المتغطرس: "لم يكن التزامي البؤساء والمضطهَدين وهماً" !

عرض مقالات: