
اكتسب مفهوم فك الارتباط زخما مؤخرا بين بعض الحركات السياسية في الجنوب العالمي، بما في ذلك مؤتمر دولي عُقد في المكسيك حول هذا الموضوعِ الشهر الماضي.
ما هو فك الارتباط، وكيف يمكن تحقيقه؟
إن أفضل من وصف فك الارتباط delinking هو الاقتصادي المصري سمير أمين. فقد انطلق من ملاحظة أن الاقتصاد العالمي الرأسمالي يتميز بتقسيم صارخ للعمل بين المركز الإمبريالي الذي يُشار إليه غالبًا باسم (الشمال العالمي) والأطراف (الجنوب العالمي).
في هذا النظام، تسعى دول المركز إلى احتكار أكثر أشكال الإنتاج ربحية، وترسيخ سيطرتها على سلاسل السلع العالمية، مع منع التنمية السيادية في الأطراف للحفاظ عليها كمُورّدٍ تابعٍ للعمالة الرخيصة. تُستخدَم العمالة والموارد الجنوبية لإنتاج سلع كتلك المنتجة في المصانع الاستغلالية وسلع المزارع لصالح دول المركز، وبأسعار سوقية منخفضة، بدلاً من الإنتاج لتلبية الاحتياجات البشرية المحلية والتنمية الوطنية.
لقد أشار أمين إلى أن هذا النظام يتميز بتفاوتات كبيرة في الأسعار بين المركز والأطراف، وبالتالي عدم تكافؤ التبادل في التجارة الدولية. إذ يُجبر الجنوب على الاعتماد على استيراد التقنيات والسلع الإنتاجية من المركز بأسعار احتكارية، ولتغطية تكاليف ذلك، يضطر الجنوب إلى تصدير كميات هائلة من السلع والسلع المصنعة بأسعار زهيدة بشكل مصطنع، مما يولّد نقلًا صافيًا للقيمة من الأطراف إلى المركز. هذا الوضع يثري المركز ولكنه يستنزف موارد المحيط اللازمة للتنمية.
هذا النظام ينتج ويديم الفقر والتخلف في الجنوب. إن الفقر ليس حتميا، بل هو نتيجة للديناميكيات الإمبريالية في الاقتصاد العالم. يتمتع الجنوب العالمي بقدرات إنتاجية هائلة، تشمل قوة عاملة هائلة، وأراضي، ومصانع، وموارد هائلة. لكن المشكلة تكمن في افتقاره إلى السيطرة السيادية على الإنتاج.
ولمعالجة هذه المشكلة، دعا أمين إلى عملية فك الارتباط، والتي يرى أنها تتضمن عنصرين أساسيين:
1. فك الارتباط مع استغلال النوايا الاستعمارية. ينبغي على الدول الجنوبية إنهاء اعتمادها على الواردات من المراكز الاستعمارية، وإنهاء اعتمادها على رأس المال الامبريالي وعملات المراكز، من أجل بناء السيادة الاقتصادية والحد من التفاوت في التبادل. تجدر الإشارة إلى أن أمين لم يكن يدعو إلى الاكتفاء الذاتي أو العزلة؛ بل على العكس، شجّع بنشاط التعاون والتجارة بين بلدان الجنوب كتكتيك للتغلب على التبعيات الامبريالية.
2. فك الارتباط بقانون القيمة الرأسمالي. في ظل الرأسمالية، يُنظّم الإنتاج حول ما هو الأكثر ربحية لرأس المال (وخاصة رأس المال الأجنبي). في الجنوب، يُفضّل رأس المال استغلال العمالة الرخيصة في سلاسل التوريد العالمية بدلًا من الاستثمار في الابتكار التكنولوجي والتحديث الصناعي. وهذا يعيق التنمية. يجب على حكومات الجنوب تجاوز هذا الأمر ومواءمة الإنتاج مع قانون جديد للقيمة: الاحتياجات الإنسانية والتنمية الوطنية.
كيف يمكن تحقيق فك الارتباط في القرن الحادي والعشرين؟ تتضمن بعض المبادئ الأساسية بهذا الشأن ما يلي:
تتمثل الخطوة الأولى في خفض الواردات من دول المركز. ويمكن تحقيق ذلك من خلال خفض الواردات غير الضرورية (السلع الكمالية، إلخ)، مع استبدال الواردات الضرورية، كلما أمكن، بالإنتاج المحلي، أو من خلال التجارة بين بلدان الجنوب، والأفضل استخدام خطوط المبادلة لتداول السلع خارج الدولار الأمريكي أو اليورو. يخفف اتخاذ هذه الخطوة الضغط على الصادرات إلى دول المركز (ويقلل الحاجة إلى العملات المركزية)، وبالتالي يقلل من التعرض لتقلبات أسعار الصرف.
لقد أصبحت هذه الخيارات متاحة بشكل متزايد لدول الجنوب بفضل الصين. فقد كسرت الصين العديد من الاحتكارات التكنولوجية لدول المركز، ووفرت مصدرًا بديلًا يمكن لدول الجنوب من خلاله الحصول على الواردات بشروط أكثر عدلًا. (وهذا في الواقع أحد الأسباب الرئيسية لموقف دول المركز المتزايد العدوانية تجاه الصين). كما أنشأت مبادرة الحزام والطريق الصينية بنية تحتية تُمكّن من تعزيز التجارة بين دول الجنوب.
وتتمثل الخطوة الثانية في استخدام السياسات الصناعية والتخطيط للتغلب على جمود رأس المال وتوجيه الاستثمار والإنتاج نحو تطوير قاعدة صناعية ذات سيادة، والتخلص من المواقف التابعة في سلاسل السلع العالمية، وبناء البنية الأساسية اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية.
لتحقيق هذه الغاية، يمكن للحكومات تأميم روسب الموارد الرئيسية وقطاعات التصدير الأساسية لفرض سيطرة عامة على عائدات النقد الأجنبي، مع فرض ضرائب على عائدات النقد الأجنبي للمصدرين من القطاع الخاص. بهذه الطريقة، يمكن استخدام النقد الأجنبي بشكل استراتيجي، للتركيز على شراء التقنيات والسلع الإنتاجية الضرورية للتغلب على التبعية وتطوير الصناعات الوطنية السيادية.
أخيرا، يمكن الاستفادة من التمويل العام في الأشغال العامة. تستطيع دول الجنوب التي تصدر عملتها الوطنية الخاصة استخدامها لتمويل أي مشروع يمكن تمويله بتلك العملة، دون الحاجة إلى الاعتماد على رأس المال الأجنبي. ويمكنها إنشاء نظام ضمان وظيفة عامة public job guarantee لتدريب وتوظيف الأفراد في الأنشطة الضرورية، مثل بناء المساكن، وأنظمة الصرف الصحي، والمدارس، والمستشفيات، دون انتظار رأس المال ليُقرر جدوى هذه الأنشطة.
بالطبع، هذا ليس إلا غيضا من فيض. فكل دولة تواجه تحدياتها الخاصة، وليس هناك حل واحد يناسب الجميع لفك الارتباط. لكن خطوات كهذه يمكن أن تساعد دول الجنوب على استعادة قدراتها الإنتاجية والتخلص من ديناميكيات التبادل غير المتكافئ.
قد تُمنع بعض هذه التحركات من خلال برامج التكيف الهيكلي التي ينفذها صندوق النقد الدولي أو الشروط التي يفرضها الدائنون الأجانب، والتي تسعى عادةً إلى منع دول الجنوب من استخدام السياسات الصناعية والمالية. في هذه الحالة، قد تضطر الحكومات إلى التخلف عن سداد ديونها الخارجية ذات الصلة، وكما جادل توماس سانكارا Thomas Sankara، ينبغي عليها القيام بذلك جماعيًا كلما أمكن، لتعظيم قدرتها التفاوضية.
بالطبع، ستكون هناك ردود فعل عكسية. ستفرض دول المركز تكاليف اقتراض أعلى، وربما عقوبات. ولكن يمكن تخفيف هذه الضغوط تحديدا بقدر ما تتمكن الحكومات من تقليل اعتمادها على الواردات من المركز. يمكن أن تساعد زيادة الرقابة العامة على العملات الأجنبية، إلى جانب ضوابط رأس المال، في منع أي أزمة في ميزان المدفوعات. وقد توفر مؤسسات جنوبية جديدة، مثل بنك التنمية الجديد New Development Bank والبنك الآسيوي للاستثمار Asian Infrastructure Investment Bank في البنية التحتية، مصادر تمويل بديلة.
الاعتبار الأخير هو الدفاع. لا يمكننا التقليل من مدى استعداد الدول المركزية لاستخدام العنف، حتى العنف الإبادي، ضد أي مشروع تحرر وطني، للحفاظ على تبعيتها للدول الطرفية. وقد شهدنا هذا الأمر يتكرر مرارا وتكرارا في العقود الماضية. لذلك، من الضروري إقامة تحالفات دفاعية إقليمية كلما أمكن، كما فعلت بوركينا فاسو ومالي والنيجر مع تحالف دول الساحل Alliance of Sahel States
إن عملية فك الارتباط وفق هذه المبادئ قد تكون بالغة التأثير. فهي تُمكّن الدول الجنوبية من التحرر من الاستغلال الإمبريالي، والتغلب على التخلف، وتلبية الاحتياجات الإنسانية، والتحول البيئي. إن حرية وكرامة الأغلبية العالمية تتطلب عملية فك ارتباط. وستكون هذه أيضًا العملية التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيك بنية الاقتصاد العالمي القائمة على المركز والأطراف، وإقامة عالم غير قطبي.
نبذة عن جيسون هيكل:
الدكتور جيسون هيكل عالم أنثروبولوجيا ومؤلف وزميل في الجمعية الملكية للفنون. درّس في كلية لندن للاقتصاد، وجامعة فرجينيا، وكلية غولدسميث بجامعة لندن، حيث يُشرف على برنامج الماجستير في الأنثروبولوجيا والسياسات الثقافية. وهو عضو في فريق عمل حزب العمال المعني بالتنمية الدولية، ومدير سياسات مجموعة القواعد، وعضو في المجلس التنفيذي لمنظمة "الأكاديميون ضد الفقر" (ASAP)، وانضم مؤخرًا إلى المجلس الاستشاري التحريري الدولي لمجلة "العالم الثالث الفصلية".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://globalinequality.org/unequal-exchange/
Jason Hickel, Dylan Sullivan & Huzaifa Zoomkawala, Plunder in the Post-Colonial Era: Quantifying Drain from the Global South Through Unequal Exchange, 1960–2018 (Published online: 30 Mar 2021)
Plunder in the Post-Colonial Era: Quantifying Drain from the Global South Through Unequal Exchange,
Jason Hickel, Christian Dorninger, Hanspeter Wieland, Intan Suwandi, Imperialist appropriation in the world economy: Drain from the global South through unequal exchange, 1990–2015, Elsevier: Global Environmental Change, Volume 73, March 2022.
Samir Amin, A Note on the Concept of Delinking, Review, X, 3< Winter 1987, 435-444.
Samir-Amin-A-Note-on-the-Concept-of-Delinking.pdf
Jason Hickel and Dylan Sullivan, Aljazeera, The real reason the West is warmongering against China
The real reason the West is warmongering against China | International Trade | Al Jazeera
Ndongo Samba Sylla, For a full and decent employment in Africa: the role of a Job Guarantee, Policy Report 2023/01, Rosa Luxemburg Foundation, Dakar
Policy Report 2023 1 For a full and decent employment in Africa- the role of a Job Guarantee Ndongo Samba Sylla.pdf
نشر النص الأصلي في موقع الكاتب تحت عنوان: What is delinking? ونشر في موقعه:
https://jasonhickel.substack.com/p/what-is-delinking
وأعيد نشره في موقع: https://mronline.org/2025/11/26/what-is-delinking/







