في مجلة (نيشن) بعددها الأخير، كتب المحرر روبن بلاكبيرن عن كتاب (كارل ماركس في أمريكا) للكاتب أندرو هارتمان، موضحاً كيف يقدم قراءة شاملة لتأثير أفكار ماركس على الحركة العمالية والسياسية في الولايات المتحدة، ومسلطاً الضوء على الانتصارات والتحديات التي واجهتها الماركسية الأمريكية منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. وعلى الرغم من أن كارل ماركس لم تطأ قدماه الولايات المتحدة يوماً، إلا أن تأثيره الفكري امتد عابراً المحيطات، ليترك بصمة عميقة على الحركة العمالية الأمريكية.

منذ منتصف القرن التاسع عشر، قدمت كتاباته، من (البيان الشيوعي) إلى (رأس المال)، إطاراً لفهم التناقضات العميقة بين العمل الحر والعبودية، وبين طموحات الحرية الاقتصادية والقيود التي فرضها النظام الرأسمالي. كانت الولايات المتحدة، في تلك الفترة، تتجه نحو التصنيع، مع وجود قوة عاملة متحركة ومتنوعة، بينما ظل الجنوب الزراعي يقوم على العبودية، ما جعل مسألة العمل الحر مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة العدالة والحرية. ومع اندلاع الحرب الأهلية وإلغاء العبودية، ظهرت فرص جديدة للعمالة الحرة في الشمال، غير أن هذه المكاسب لم تُترجم بالكامل إلى تمكين العمال من التحكم في ظروف عملهم.

هنا بدأ ظهور الحركات الاشتراكية والعمالية التي استلهمت أفكار ماركس لتقديم بدائل وتنظيمات عمالية. الحزب الاشتراكي الأمريكي، الحزب الشيوعي الأمريكي، والنقابات العمالية، كانت أدوات لتطبيق مبادئ العدالة الاقتصادية والاجتماعية، رغم التحديات الناتجة عن الانقسام الثقافي والديني، وتنوع الخلفيات المهاجرة في البلاد. وقد نجحت هذه الحركات في تحقيق مكاسب ملموسة، منها

قانون واغنر الذي ضمن للعمال حق تشكيل النقابات، وبرامج الضمان الاجتماعي، ومشاريع البنية التحتية التي حسّنت مستوى المعيشة ووسعت الحماية الاجتماعية. ومع ذلك، كانت هذه الانتصارات مصحوبة بقيود واضحة: الرقابة الحكومية، الصراع مع الشركات الكبرى، وقيود الإصلاحية المحلية، جعلت من الصعب على الماركسية الأمريكية أن تتحول إلى قوة سياسية موحدة. حتى البرامج الإصلاحية التي بدت تقدّمية، مثل الصفقة الجديدة لروزفلت، حملت في طياتها تناقضات بين تعزيز حقوق العمال وبين الحفاظ على النظام الرأسمالي القائم. على مدار القرن العشرين، واصلت الماركسية الأمريكية تطورها، مستجيبة للتغيرات الاجتماعية والسياسية، من موجة الراديكاليين الشباب بعد الثورة الروسية، إلى انتقادات التمييز العرقي والحرب الباردة، وصولًا إلى العصر الحديث الذي شهد تصاعد الاحتكارات الكبرى، والخصخصة، والتفاوت الاقتصادي الحاد. ولعل ما يميز هذه التجربة هو القدرة على تقديم نقد مستمر للرأسمالية، مع الإبقاء على أمل التغيير الاجتماعي، حتى في ظل القيود والانتكاسات المتعددة.

إن دراسة تجربة الماركسية الأمريكية تكشف عن ديناميكية فريدة: انتصارات ملموسة ومكاسب إصلاحية، تحديات سياسية وثقافية، ومعركة مستمرة من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية. فهي تجربة لم تتوقف عند حدود الأفكار النظرية، بل امتدت لتؤثر في حياة ملايين العمال والعاملات، في سعي مستمر لتقليص التفاوت وتحقيق الحرية الاقتصادية. وهكذا، تبقى الماركسية الأمريكية إرثاً حياً، يذكرنا بأن الصراع بين العمل ورأس المال، بين العدالة والهيمنة، مستمر بلا هوادة، وأن النضال من أجل حقوق العمال لم يكن يوماً مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية.