في ظل الواقع المعيش وما يحمله من ويلات على مختلف المستويات، ومع كل أزمة يمر بها النظام الرأسمالي العالمي التي مخرجه منها شن الحروب على شعوب العالم لتدفيعهم أثمان أزماته، يعاد ترويج طروحات وأفكار و”بدائل” تؤبد القائم، نتوقف سريعاً عند أبرز عناوين تياراتها، هي في مقاربتنا النقديَة الأوليَة لها: “تيار المجتمع المدني”، “تيار التجديد في الفكر الماركسي”، “تيار العودة إلى ماركس”. تيارات تطرح مفاهيمها و”بدائلها” تحت شعارات “التغيير” و”التجديد” و”حل” أزمات الواقع الاجتماعي إلخ… تغيّب فيها التناقضات الاجتماعية، وبالتحديد الأدق تغيَب الصراع الطبقي، وأسبابها المادية وبذلك تعيد إنتاج القائم بشعارات طنَانة رنَانة. وبالتالي فإن المقاربة الأوليَة، النقدية لها، بالعناوين العامة، هي إبراز، سريع، لهذا الجانب فيها، ربما، يفتح الباب لدراستها وتفكيك طروحاتها بشكل أوسع وأعمق لإظهار عدميتها. والعدمية موقف سياسي، أيديولوجي، بامتياز يعطي للقائم حجج تؤبد، موقعه في النضال الثوري التحرري موقع الهامش، من يصنع التاريخ من دونه.

" تيار المجتمع المدني "

مع انهيار الاتحاد السوفياتي والتجربة الاشتراكية المحققة راجت مقولة المجتمع المدني وأخذت منظماته تتكاثر وتنمو كالفطر، وما زالت، وبدا كأنه الحل السحري للخلاص من الاستغلال وتحقيق الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والمساواة إلخ… عند إنعام النظر، بعين الفكر المادي العلمي الديالكتيكي، في المجتمع المدني بمفهومه البرجوازي المدافع عنه والمروّج له، يبدو وكأنه بلا هوية اجتماعية، والأصح قول إنه يتم حجب هويته الطبقية في عملية فصل منهجي للمجتمع المدني عن نمط الإنتاج الرأسمالي، وعلاقاته لإظهاره كجوهر فوق الواقع وتناقضاته الطبقية التي أنتجته، أي نفي الأساس المادي، علاقات الإنتاج، المغيبة في طروحات المجتمع المدني، وبتغييب الأساس المادي يصبح التغيير، وهمياً، يعطي للاستغلال شروط تأبده.

منظمات المجتمع المدني “تتكهرب”، بالطبع، من السياسة، لذلك تركز في حملاتها على أن لا دخل لها في السياسة، أي أنها على “حياد” و”الحياد” دعوة للاستقالة من السياسة، والاستقالة من السياسة، في أسها، موقف سياسي يحرض على الهجوم ضد الفكر الثوري، ويسعى لإنهاء مفهوم الأحزاب السياسية الثورية، وضرب مفهوم النضال الديمقراطي العام الذي هو نضال طبقي في الأساس، لتأمين الخضوع للطبقة البرجوازية المسيطرة، في ذلك تكمن العدمية “في تيار المجتمع المدني”.

" تيار التجديد في الفكر الماركسي "

كثيرة الكتابات حول ضرورة تجديد الفكر الماركسي، والمعروف، بدهياً، أن النظرية الماركسية – اللينينية تحتم، بمنهجها المادي العلمي الديالكتيكي، ضرورة التجديد، ولكن في كثير من دعوات التجديد الرائجة لا تحديد لما يجب تجديده، ولا تحديد لما شاخ في النظرية الماركسية. مما يوقع في “حيص بيص” التمرين على الانشاء وفي الإنشاء. دعوات للتجديد من دون تحديد ما المطلوب تجديده، تنظيرات لمقولات شاخت في النظرية الماركسية من دون تحديد تلك المقولات، وطرح البديل عنها… وبالتالي اللا تحديد وجه من وجوه الفكر العدمي، بامتياز، يخفي حقيقة موقعه في إعادة إنتاج أسس الاستغلال.

يلاحظ أنه في العديد من دعوات “التجديد” في الفكر الماركسي تركيز الهجوم على لينين لفصل الماركسية عن اللينينية، أو تغييبه، وهنا تكمن الخطورة في جانب منها أنها تركز الهجوم على قائد الثورة الاشتراكية المحققة، وتسعى لضرب مفهوم رئيس في النظرية الماركسية أضاء عليه لينين وهو تمييز كونية قوانينها، أي عدم تطبيق متكون على متميز، كيلا نقع في الجمود العقائدي عدو النظرية الماركسية – اللينينية، وكيلا نقع في وهم دعوات “للتجديد” في الفكر الماركسي تريح نفسها من عناء صدم مفاهيم النظرية في الواقع لكشف تطوره وتمييز قوانينها، انطلاقاً من تفاوت التطور بين المجتمعات، بمفهومه المادي العلمي، لتتلون بحسب لون المرحلة وفكرها المسيطر.

" تيار العودة إلى ماركس "

تبدو مفارقة اعتبار بعض دعوات العودة إلى ماركس بأنها في جانب رئيس منها تروج للفكر العدمي، أغلب الظن أنها كذلك لدى من يُبهر بالشكل من دون المضمون. فعند إنعام النظر بكثير من الدعوات الرائجة، في البلدان الرأسمالية، للعودة إلى ماركس، يتضح انها دعوات انتقائية، تركز على نتاج ماركس الذي حلل فيه أزمة النظام الرأسمالي ومكامن الخلل فيه، لتطرح، باسم ماركس، البديل عنه من ضمن آليات النظام الرأسمالي وعلاقات إنتاجه، وتحجب، في المقابل، الصراع الطبقي المحرِّك للتاريخ، وشعار “البيان الشيوعي”: “يا عمال العالم اتحدوا”، الشعار الذي سار فيه لينين نحو “يا عمال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”، وبالتالي يتضح أنها بروباغاندا تسعى، بالوهم، لحل أزمة النظام الرأسمالي من داخله باسم ماركس. فأي ماركس هذا الذي تتم الدعوة للعودة إليه في بعض تلك الدعوات؟ في هذا التغييب وجه من وجوه تيارات الفكر العدمي، كونه يجد لنظام الاستغلال الطبقي حلولاً، بالوهم، لأزمته من داخله، إنها حلول موقتة لأن أزمة النظام الرأسمالي العامة هي أزمة بنيوية.

يتركز الهجوم على النظرية الماركسية – اللينينية، تحت مسميات تيارات عديدة، منها ما ذكرناه أعلاه وغيرها من التيارات البرجوازية، هو في أسه سعي، محموم، لنزع عصبها، الصراع الطبقي، محرِّك التاريخ، لنفيه كون حامله، الطبقة العاملة، حفَارة قبر النظام الرأسمالي، وبرد سريع على أس تلك الطروحات نعيد التذكير بسؤال طرحه الشهيد مهدي عامل هو “كيف يموت صراع تتولد فيه الحياة ضد قديمها ونقيضها؟ بمنطق الرغبة في موته. هكذا بالسحر يلغي الفكر الرافض للتاريخ، العاجز عن إدراكه صراع الطبقات الذي هو السياسي”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منصة "تقدم" – 29 أيلول 2025

عرض مقالات: