وضعت أعمال كارل ماركس وفريدريك انجلز أسس المنهجية المادية الديالكتيكية لمفهوم العلوم وتطورها وارتباطها بالواقع الموضوعي وحاجات الإنتاج، مبرزة دور البراكسيس (الممارسة)، أيضاً، في حقل المعرفة وتطورها ونموها، بذلك اشتملت الماركسية على مفهوم جديد ثوري للعلوم وللفلسفة انتقدت فيه المفهوم المثالي، والمفهوم المادي الميكانيكي لهما، في المنهجية نفسها أضاءَ لينين على جوانب من نظرية ماركس وانجلز حول نظرية المعرفة ومفهوم الديالكتيك وعلاقة الوعي بالمادة، ومفهوم البراكسيس وارتباطه بنظرية المعرفة والممارسة السياسية ونقده للفلسفة المثالية، النقد الذي يشكل، مع أعمال ماركس وانجلز، أسس نقد الفلسفة المثالية التي، بجميع تياراتها ومذاهبها، ومنها الوضعية Positivism بالطبع، تسعى إلى تأويل الاكتشافات العلميَّة لشن هجوم مضاد على النظرية الماركسية – اللينينية بهدف إنكار، بالوهم، علميتها.
في الذكرى الـ 101 لرحيل فلاديمير لينين (22 أبريل 1870 – 21 يناير 1924) قائد الثورة الاشتراكية ومؤسس أول دولة اشتراكية نسلط الضوء على جانب من نقد لينين للتيار المثالي في الفلسفة، والمادي الميكانيكي، وذلك من خلال نقده للتأويل المثالي للاكتشافات العلميَّة ورأس حربته الوضعية وتأويلها لها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لإبراز جانب مهم من نتاج لينين، ومحوري في النظرية الماركسية، أي جانب من نتاجه الفلسفي، وبالطبع لسنا هنا بصدد دراسة متكاملة تبرز نتاج لينين الفلسفي بالكامل فهذا موضوع دراسة شاملة لا يتسع المجال لها الآن وهنا.
أهميَّة كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” وموقعه في الدراسات الفلسفية
خاض لينين معركة فلسفية ضد المثالية ومحاولات استخدامها للاكتشافات العلميَّة، وفق تأويلها المثالي لها، لدحض الفلسفة الماركسية. في معركته الفلسفية أظهرَ لينين الارتباط المادي الديالكتيكي بين الفلسفة والسياسة، والخلفية السياسية للهجوم على الفلسفة الماركسية – اللينينية، والأبرز في ذلك يكمن في عمق اطلاعه على النتاج الفلسفي في تلك الحقبة التاريخية ورده الفلسفي العميق عليها. كتابات لينين الفلسفية موجودة في ثلاثة أعمال هي كتيب “من هم أصدقاء الشعب” الذي ميز فيه بين الديالكتيكي الماركسي والديالكتيك الهيغلي، إضافة إلى توسيع مفهوم الديالكتيك؛ وكتاب “المادية والمذهب التجريبي [الأمبيريقي] النقدي” Materialism and Empirio- Criticism الذي صدر في شهر أيار/ مايو العام 1909 وينطوي على نقاش فلسفي ممتع في عمقه وتماسكه ضد الفلسفة المثالية بمختلف تياراتها ومذاهبها، كما يتجلى فيه مفهوم الارتباط المادي الديالكتيكي بين الفلسفة والسياسة وما يدلل على ذلك حكاية تأليف هذا الكتاب الذي أتى رداً على مفكرين بلاشفة أبرزهم الكسندر بوغدانوف دعوا لأفكار سياسية عدمية وفلسفة لا عقلانيَة وهي آراء وضعية، آراء مارخ (النقدية الأمبيريقية)، التحريفية، فقد طلب الروائي الشهير مكسيم غوركي من لينين، مناقشة تلك الآراء الوضعية والرد عليها. لقد دعا بوغدانوف إلى تجديد الماركسية بناء على التغير الذي حصل في العلوم الفيزيائية وبالتالي قيام فلسفة للعلم جديدة “وقد كان يبدو لبوﻏدانوف أن ماخ وغيره من التجريبيين النقديين صاغوا الشروط الفلسفية للعلم الجديد كأدق ما تكون الصياغة، فسعى هو إلى التّأليف بين مواقفهم الفلسفية وبين مبادئ المادية التاريخيّة تأليفاً دعاه باسم ”الواحدية التجريبية“ (Empirio- monisme): كصّيغة ماركسية للنقدية التجريبية” (بن سوسان جيرار، لابيكا جورج، معجم الماركسية النقدي، ترجمة جماعية، دار محمد علي للنشر، صفاقس، دار الفارابي، بيروت، ط.1، 2003. ص. 1315)، وعملوا على أن تكون هي الأساس الفلسفي للماركسية، بدلاً من المادية الديالكتيكية، هذا الطرح الفلسفي وما يحمله من خلفية سياسية انتقده لينين وأظهر أنه يعيد أطروحات فلسفة القرن الثامن عشر الميكانيكية وتجريبية هيوم ولا أدريته، مظهراً البعد الفلسفي للماركسية؛ أما العمل الثالث الذي وضع فيه لينين طروحات فلسفية هو “دفاتر فلسفية” ولكنه عمل غير مكتمل.
يعد كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” أحد أهم الكتب التي يظهر فيها البُعد الفلسفي للماركسية وقدرتها على نقد الاتجاهات الفلسفية السائدة، شن فيه لينين هجومه على الأكاديميين ومفهومهم للفلسفة الذين جعلوها أداة في يد السلطة للدفاع عنها لشن هجوم على الفكر الثوري وتشويه الوعي تحت ذريعة النقاء الفلسفي، لذلك تعرَّضَ الكتاب للكثير من محاولات التشكيك بخلفيته الفلسفية بهدف تحنيط الفلسفة في برجها العاجي ومنع أن تكون الفلسفة أداة من أدوات النضال الثوري ضد الأيديولوجية البرجوازية المسيطرة وفلسفتها. وقد أبرز ألتوسير الخلفية الفلسفية لكتاب لينين من خلال إبرازه لمفهوم البراكسيس في كتابه “تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة” (ترجمة الياس شاكر، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2017)، وما حمله مفهوم البراكسيس من تغيير لمفهوم الفلسفة وجعلها أداة من أدوات التغيير.
أهمية كتاب لينين “المادية والمذهب التجريبي النقدي” في الدراسات الفلسفية وأهمية الفلسفة الماركسية وجديدها الثوري، أبرزها العديد من المفكرين البارزين في عالمنا العربي، نذكر منهم، بحسب اطلاعنا، محمود أمين العالِم الذي يُعد كتابه “فلسفة المصادفة”، وهو بحث لنيل درجة علميَّة من جامعة القاهرة، أحد الكتب الرئيسة في اللغة العربية، لنقد الوضعية بمنهجية مادية علمية، فقد شكل كتاب لينين “المادية والمذهب التجريبي النقدي”، مادة رئيسة في تطوير أفكار محمود أمين العالِم وقلبها رأساً على عقب، بعد أن كانت تسيطر عليه الفلسفة المثالية التي حاول فيها تقويض الموضوعية العلمية، باعتراف العالِم في تمهيده لكتابه، وأنّ اطلاعه على كتاب لينين قاده إلى كتاب انجلز “ديالكتيك الطبيعة”، واعترف العالِم أن لهذين الكتابين دورهما في تقويضه للفكر المثالي الذي كان يأخذ به. ويشير العالِم إلى مسألة مهمة تفضح مدى هيمنة الفكر المثالي على الصروح الأكاديمية وممارسة قمعه لأية محاولة لنقدها، هي أنه لم يستطع، في بحثه الأكاديمي، الإفصاح بالدور الذي لعبه كتاب لينين وكتاب انجلز في قلب أفكاره المثالية، لذلك يقول العالِم إنه استعان بمصطلح “تكميلية” في “الموضع الذي أردت أن أستخدم فيه كلمة ”الجدلية“. وكان هذا مخاطرة فكرية بغير شك. إذ أن ”التكميلية“ مصطلح معروف يختلف اختلافاً كبيراً عن ”الجدلية“، بل يتضمن مدلولاً مثالياً توفيقياً”. (العالِم، محمود أمين، فلسفة المصادفة بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة ويحدد دلالتها في الفيزياء الحديثة، مكتبة الأسرة، القاهرة مصر، لا. ط، 2003 ص.9). وأظهر د. هشام غصيب، بشكل رئيس في كتابه “جدل الوعي العلمي إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة”، من خلال نقده للوضعية وما بعد الوضعية، أهميَّة موقع لينين في الدراسات الفلسفية وموقع كتابه “المادية والمذهب التجريبي النقدي” الذي في ضوءِ المنهجية المادية الديالكتيكية لنقد الوضعية، والفلسفة المثالية، وضع لينين، بتحديد د. هشام غصيب، الأبيستمولوجيا المادية. الإقرار بأهميَّة كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” يعترف به د. محمد عابد الجابري، وهو غير ماركسي، الذي قال إن رد لينين على الوضعية وظاهراتية ماخ “في كتابه ”المادية والمذهب التجريبي النقدي“، هذا الكتاب الذي لم يظهر بعد عند السوفيات، في حدود علمنا، ما يوازيه اطلاعاً وقوة حجة”. (الجابري، محمد عابد، مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 1994.ص.445).
نقد “المثالية الفيزيائية”
في هذه العجالة السريعة نقصر التركيز على قضية رئيسة انتقد فيها لينين المذهب الوضعي في تلك المرحلة التاريخية، أي “المثالية الفيزيائية”، والتيار المثالي في الفلسفة بمختلف مذاهبه واتجاهاته، التي تشكل، في الوقت نفسه، أسس المفهوم الماركسي – اللينيني لفلسفة العلم. لقد أدت الاكتشافات العلمية الحديثة إلى انهيار مبادئ الفيزياء القديمة وقوانينها، نتيجة لذلك ظهر في تلك الفترة التاريخية، ما عُرِف بـ “أزمة الفيزياء”، التي وجد فيها أرنست ماخ، وهنري بوانكاريه، وفيلهلم أوستفالد، وكارل بيرسون وغيرهم، فرصة لإلغاء السمة المادية للفيزياء بمعنى “نبذ الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي، أي الاستعاضة عن المادية بالمثالية واللاعرفانية [اللاأدرية]”. (لينين، فلاديمير، المختارات، 10 مج، مج 4، ترجمة شاهين، الياس، دار التقدم، موسكو، لا ط، 1978، ص. 331)؛ أما السبب الثاني، العام، لـ “أزمة” الفيزياء وانتشار “المثالية” الفيزيائية”، فهو اتساع دور الرياضيات في الفيزياء، مفيدة ممَّا تتمتع به من قدرة على معرفة قوانين الطبيعة والتنبؤ بها، إلا أنها قادت إلى الاهتمام بوصف المعطيات التجريبية، رياضياً، بدلاً من عكس العمليات الواقعية، (علاقة الرياضيات بالتجربة حللها فريدريك انجلز في كتابه “انتي دوهرينغ“. القسم الأوَّل، “الفلسفة”، مبحث، “التصنيف – القَبْليَّة”). وبالتالي حصرت مهمة العلم في الوصف الموجز لمعطيات التجربة ونزعت عنه الصفة التفسيرية والاكتشاف، وهو موقف أكده كارل بيرسون في كتابه قواعد العلم بقوله: “لا يظن أي أحد أن العلم يفسر أي شيء، كلنا ننظر إليه على أنه وصف موجز، كاقتصاد للفكر”؛ أما أرنست ماخ فجعل مهمة العلم، في كتابه تحليل الحواس مقتصرة على اكتشاف نظام المحاكاة بين حواسنا التي تمكننا من التنبؤ بحواس مستقبلية. في هذا الاتجاه من التفكير وصلَ ماخ وأوستفالد إلى نفي وجود الذرات في الواقع الموضوعي. اتجاه كشف لينين خلفيته المثالية بقوله إنَّ “الاقتراب من عناصر متجانسة وبسيطة من عناصر المادة تجيز قوانين حركتها المعالجة الرياضية، يؤدي الى نسيان المادة من قبل الرياضيين. ”المادة تزول“ وتبقى المعادلات فقط. وفي المرحلة الجديدة من التطور، تظهر بطريقة جديدة (…)، الفكرة الكانطية القديمة القائلة ان العقل يملي القوانين على الطبيعة”. (لينين فلاديمير، مختارات، مج4، مصدر سابق، ص. 397).
لينين والمفهوم المادي الديالكتيكي لعمليات الطبيعة
تحليل لينين للاكتشافات الفيزيائية الحديثة انطلق من إبرازه للجانب الديالكتيكي لعمليات الطبيعة، حيث ركز في نقده لـ”المثالية الفيزيائية” على مسألة فلسفية في غاية الأهمية هي نقد الفهم الميكانيكي وحيد الجانب لتلك الاكتشافات، الذي قادَ إلى نفي مبادئ الفيزياء الكلاسيكية نفياً، ميكانيكياً؛ وإلى الوقوع في ما يُسمَى نسبية معارفنا. مذهب في المعرفة نقده لينين، وأعطى، في الوقت نفسه، المعنى الديالكتيكي لنسبية معارفنا، بتأكيده أن التفكير يستطيع “ان يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة الى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طوراً جراء نمو المعرفة اللاحق”. (لينين فلاديمير، مختارات، مج4، مصدر سابق، ص. ص 168-169).
ومن المسائل التي استخدمها أتباع “المثالية” الفيزيائية” في هجومهم على المادية، مسألة إعلان الفيزيائيين “زوال المادة” وإرجاعهم المادة إلى الكهرباء، مسألة وجدوا فيها فرصة لإنكار الوجود الموضوعي للمادة. موقف انتقده لينين بتحديده أنه عندما يقول الفيزيائيون إنَّ ”المادة تزول“ “فإنهم يريدون ان يقولوا بذلك ان علم الطبيعيات حصر حتى الآن جميع بحوثه للعالم الفيزيائي في المفاهيم الأخيرة الثلاثة: المادة، الكهرباء، الاثير؛ أما الآن، فيبقى الاخيران فقط. لأنه يمكن حصر المادة في الكهرباء“. (المصدر نفسه، ص 334. مراجعة الملاحظة رقم 78، ص. ص 492-493). إذن، يوضح لينين أن العلم قد توصل إلى اكتشاف أشكال جديدة للمادة وحركتها وليس إنكار الوجود الموضوعي للمادة، وبالتالي لا يوجد تناقض ميكانيكي بين المادة والوعي، إذ إن الخاصية “الوحيدة للمادة، التي تربط المادية الفلسفية بالاعتراف بها انما هي خاصة [خاصية] أن تكون واقعية موضوعية، أن توجد خارج وعينا”. (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص 335). كما سعى أصحاب الفكر المثالي إلى استخدام اكتشاف الالكترون لتأكيد “زوال المادة” انتقده لينين انطلاقاً من أن “الالكترون لا ينضب، مثله مثل الذرة، والطبيعة لا متناهية، ولكنها توجد إلى ما لا نهاية؛ وان هذا الاعتراف القاطع الوحيد، والمطلق الوحيد بوجودها خارج وعي الانسان واحساسه هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاعرفانية [اللا أدرية] النسبية وعن المثالية”. (المصدر نفسه، ص337).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سكرتير تحرير منصة "تقدم"
منصة "تقدم" – 21 كانون الثاني 2025