كانت دراسات ماركس الشاملة حول المشاعة الريفية الروسية خلال سبعينيات القرن التاسع عشر قد تجسدت في آخر عملين له: مسودات الرسالة إلى زاسوليتج (1881) ومقدمة الطبعة الروسية من (البيان الشيوعي) (1882)، حيث أعرب عن رأيه النهائي بأن المشاعة الريفية الروسية يمكن أن تصبح نقطة انطلاق للتحول الاشتراكي في روسيا.

«يمكن "للمشاعة الريفية" الروسية أن تحافظ على نفسها من خلال تطوير أساسها، الملكية العامة للأراضي ، ومن خلال القضاء على مبدأ الملكية الخاصة المتضمن فيها أيضًا ؛ يمكنها أن تصبح نقطة انطلاق مباشرة للنظام الاقتصادي الذي يميل المجتمع الحديث نحوه ؛ يمكنها قلب صفحة جديدة دون أن تباشر بقتل نفسها؛ يمكنها جني الثمار التي أغنى بها الإنتاج الرأسمالي البشرية، دون المرور بالنظام الرأسمالي، وهو نظام، لا يُنظر إليه إلا من وجهة نظر مدته المحتملة في حياة المجتمع. ولكن علينا أن نهبط من النظرية البحتة إلى الواقع الروسي».(مسودات الرسالة الى زاسوليتج ، مرجع سابق).

ومع ذلك، لم ينس ماركس الإصرار على ضرورة ارتباط المشاعة الريفية الروسية بالحركة الثورية للطبقة العاملة وكذلك بتكنولوجيات المجتمعات الغربية الأوروبية كشروط مسبقة لنجاح الثورة الريفية في روسيا. يقول ماركس بأن:

«التطور الشيوعي يمكن أن يكون احتمالا حقيقيا في روسيا غير الرأسمالية، إذا تمكنت الثورة الروسية من الارتباط بنظيرتها المبنية على أساس الحركة العمالية الغربية» (مسودات الرسالة الى زاسوليتج ، مرجع سابق).

لقد لعبت حالة التداخل والتقاطع بين الطبقة والعرق والعنصرية والقومية دوراً كبيراً في تطور فكر ماركس ونظريته فيما يتعلق بالحركات العمالية البيضاء في الولايات المتحدة التي كان فشلها محتماً طالما انها لم تطالب بإلغاء العبودية والتمييز العنصري؛ وكذلك العمال الإنجليز الذين كان مصيرهم الفشل أيضًا لعدم قدرتهم على دعم قضية الشعب الأيرلندي من أجل استقلال أيرلندا. كان ماركس، طوال حياته الفكرية، يغير توصراته نحو إعطاء وزن أكبر للحركات القومية في الدول التابعة مثل بولندا وأيرلندا والهند وغيرها. إن هذه السياسات لا تتناسب مع مصالح الحركات العمالية في البلدان المتقدمة. وقد رافق هذا التغيير تحول آخر في وجهة نظره بشأن تاريخ العالم المعاصر من التطور أحادي الخط إلى التطور متعدد الخطوط.

في القسم الرابع من طبعة MEGA المجلد 18 ثمة مقتطفات أخرى، الى جانب المقتطفات من ماورر، قام بها ماركس تعود الى كارل نيكولاوس فراس، وهي تكشف عن مرحلة جديدة في تطور نظرية ماركس حول علم الإيكولوجيا. ولقياس عمق نقد ماركس للرأسمالية، من الضروري النظر في أن ماركس كان يجمع بين نظرة ثاقبة في تاريخ المجتمعات غير الرأسمالية وما قبل الرأسمالية مع نظرة عميقة في علم الإيكولوجيا، حيث ركز على الآثار المدمرة (وليس الحضارية) التي تسببها الرأسمالية من وجهتي النظر التاليتين: (1) الدمار والعنف الذي ألحقته رأسمالية أوروبا الغربية بمناطق هامشية من العالم (ليس فقط المستعمرات الرأسمالية)، و (2) الصدع الأيضي (التبادل المادي) بين الإنسان والطبيعة، وتدمير النظام الإيكولوجي والتغيرات المناخية المسببة للتصحر. في عام 1866، قرأ ماركس أعمال عالم الكيمياء الزراعية الألماني يوستوس فون ليبيخ أثناء عمله على مسودة لنظرية الريع، وقد فصلت في أبحاث سابقة تأثير ليبيخ على ماركس (الماركسية والإيكولوجيا، الطبعات 1،2،3). وقد اقتنع ماركس بفضل ليبيخ بأن الزراعة الرأسمالية استنفدت الأرض وخربت العلاقة الأيضية بين الإنسان والطبيعة. ففي الطبعة الأولى من (رأس المال) - 1867، أدخل ماركس ملاحظة موجزة عن الصناعة الكبرى والزراعة في نهاية الفصل الرابع "الآلات والصناعات الكبيرة" حيث عبر عن أعلى احترام لليبيخ لأن «شروحاته المفصلة حول تاريخ الزراعة تحتوي على نظرة ثاقبة أكثر من أعمال جميع الاقتصاديين السياسيين المعاصرين». لكنه لم يتوقف عند ليبيخ.

في كانون الثاني/ يناير من عام 1868، واجه ماركس أعمال مهندس زراعي في ميونيخ ، كارل نيكولاوس فراس (1810-1875) (انظر رسالة ماركس إلى إنجلز من 3 كانون الثاني/ يناير 1868)، الذي أثار إعجابه بشدة لدرجة أنه استنسخ مقتطفات تفصيلية منه. لقد طور فراس فكرة أكثر جدية فيما يتعلق بتخريب عملية التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة (الأيض) مقارنة بما طرحه ليبيخ. حيث وضح فراس، بالتفصيل، كيف تسبب عملية إزالة الغابات لتحويل ارضها الى حقوق زراعية في جفاف وارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي الذي كان له دور كبير في تدمير التربة وانهيار وزوال عدد من الحضارات. ان ماركس يدين لفراس بأنه تعلم أن القضايا المتعلقة بـ "السيطرة الواعية" على عملية الأيض بين الإنسان والطبيعة ترتبط ارتباطا وثيقا بمشكلة التغيرات المناخية التي لها منظور طويل الأجل أكثر من تاريخ الرأسمالية. وبالضد من ليبيخ، الذي حاول التعامل مع استنفاد الأرض من خلال استخدام الأسمدة الكيماوية المناسبة، اقترح فراس تقنية لتحقيق أفضل استخدام لقوى الطبيعة الدائمة مثل الأنهار الغرينية. أطلق عليها اسم Kraftkultur (ثقافة القوة). وكبديل للزراعة الاستغلالية، اصبح ماركس يفكر في الزراعة التي ترتكز على القوى الترميمية المتأصلة في عملية الأيض نفسها.

وهكذا، تمكن ماركس من التغلب في النهاية على تصوره السابق حول التأثيرات الحضارية لرأس المال من خلال الجانبين النظريين التاليين اللذين اكتسبهما في المراحل الأخيرة من حياته: (1) الاعتراف بالأدوار الإيجابية للمجتمعات غير الرأسمالية وما قبل الرأسمالية في تجاوز الرأسمالية، و(2) اكتشاف قوى الطبيعة المرنة في عملية الأيض لمقاومة استنزاف الأرض الناجم عن الزراعة الرأسمالية.

عرض مقالات: