مثّل توفر الثروة النفطية في العديد من البلدان نقيضا لتطور الديمقراطية ومصدرا اساسيا لتفشي الاستبداد، بفعل قدرة الدولة على اختطاف واخضاع المجتمع المدني بوسائل متنوعة عبر عدة آليات من بينها: (1)
الآلية الاولى وهي ما يطلق عليه “مفعول الريعية”، ويعني أن الحكومات تستخدم عائدات النفط لتخفيف الضغوطات الاجتماعية التي يمكن لها، بخلاف ذلك، أن تؤدي الى تزايد المطالبات بمحاسبة الحكومات محاسبة أشد. و يمكن ان يحصل هذا بثلاث طرق:
- الطريقة الاولى هي “تأثير الضرائب”. ويقصد بذلك ان الحكومات، اذ تتوفر على ايرادات كافية من مبيعات النفط، لا تعود بحاجة الى ضرائب باهضة، او لا تعود بحاجة لفرض اية ضرائب على الاطلاق. بمقابل ذلك سيخفف ميل السكان الى المطالبة بمحاسبة الحكومة، ناهيك عن المطالبة بان يتم تمثيل هؤلاء في هذه الحكومة.
إن البلدان الريعية النفطية تمتاز بضعف حصة الايرادات الضريبية في إجمالي كل من الايرادات العامة والناتج المحلي الاجمالي. فالتدفقات الهائلة من الريوع النفطية التي تتحكم فيها القوى المسيطرة تحررها من فرض ضرائب مرتفعة على السكان مما يخفف من ضغط السكان الى المطالبة بمحاسبة هذه السلطات. وبعبارة أخرى، في ظل الانظمة الريعية يمكن تعطيل القاعدة التي تستند اليها النظم الديمقراطية المعاصرة: لا تمثيل بدون ضرائب!
- يتضمن مفعول الريعية عنصرا ثانيا هو “تأثير الانفاق” ويقصد بذلك ان الثروة النفطية تفضي الى زيادة الانفاق على المحسوبية (الاتباع والمحاسيب)، مما يخفف او يُسكِت الاعتراضات الكامنة التي تسعى الى اقامة الديمقراطية.
وتبدو الريعية في الدول النفطية مثلا كما لو أنها ما يشبه عملية رشوة سياسية بموجب الثلاثية التالية:
- أسر أو مجموعات حاكمة تحتكر السلطة السياسية؛
- يقابل ذلك “عقد اجتماعي” تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية؛
- ومجتمعات تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كـ “هبات” تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم/الحكام ليتصرف على هواه.
وللتدليل على هذه الملاحظة فإنه وعند تفكيك هيكل الانفاق العام في الدول العربية الى مكوناته (بين الانفاق الجاري والانفاق الرأسمالي) سنكتشف أن اكثر من ثلاثة ارباع هذا الانفاق (77.1 في المائة كمتوسط خلال الفترة 2008 – 2020) يوجه الى الانفاق الجاري في حين تخصص نسبة لا تتجاوز الربع الى الانفاق الرأسمالي (22.6 في المائة كمتوسط خلال نفس الفترة) (لمزيد من التفاصيل قارن: صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد، لسنوات مختلفة) مما يعطل أية امكانية لإعادة بناء الاقتصادات المحلية وتخليصها من طابعها الريعي وبنيتها المتخلفة والأحادية الجانب.
- العنصر الثالث في مفعول الريعية هو ما يمكن ان نسميه تأثير “تشكيل الفئات الاجتماعية”. والمقصود بذلك ان ايرادات النفط تمنح الحكومات أموالا كافية تستطيع بواسطتها ان تمنع تشكيل فئات وشرائح اجتماعية مستقلة عن الدولة، وميّالة الى المطالبة بالحقوق السياسية.
الآلية الثانية هي آلية القمع، حيث تشير التجربة في البلدان الريعية الى ان ثروات الموارد الطبيعية تعوق بناء الديمقراطية عبر تمكين السلط الحاكمة من زيادة الانفاق على الامن الداخلي.
ولا تقتصر معدلات الإرتفاع الكبيرة في الإنفاق العسكري على البلدان الكبيرة والمتقدمة، بل أن بلدانا كثيرة نامية ومنها بلداننا العربية تنفق قسما كبيرا من ثرواتها الوطنية على اقتناء الأسلحة، وذلك لدواعي “حماية” الأمن الوطني ومواجهة التهديدات الخارجية الفعلية والمفترضة، وبسبب النزاعات الداخلية والصراعات الإقليمية.. الخ. وتشير الوقائع والمعطيات المتوفرة إلى أن هذه البلدان أهدرت خلال العقود الأخيرة موارد ضخمة على التسلح، كان من الممكن أن توجِّهها لمواجهة الفقر والتخلف، ولتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى أن الدول العربية الخليجية تقف في مقدمة دول العالم من حيث نسبة الإنفاق العسكري إلى إجمالي الناتج المحلي.
وبحسب قائمة اعدها معهد ستوكهولم لابحاث السلام الدولى لأعلى 15 ميزانية دفاع (من حيث نسبتها في الناتج المحلي الاجمالي في سنة 2020) يلاحظ ان هناك 10 دول عربية من بينها وهي (عمان، لبنان، الكويت، السعودية، الجزائر، العراق، الامارات العربية المتحدة، المغرب، الاردن، قطر).
واضافة لذلك فانه ووفقا للبيانات التي نشرها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) فقد ارتفع إجمالي الإنفاق العسكري العالمي إلى 1981 مليار دولار في عام 2020، بزيادة قدرها 2.6 في المائة بالقيمة الحقيقية عن عام 2019، وسيطرت عشر دول على 75 في المائة من الإنفاق العسكري العالمي في 2020 بقيمة وصلت إلى 1482 مليار دولار. وتصدرت الولايات المتحدة الأميركية بإنفاق 778 مليار دولار، بعدها الصين 252 مليار دولار، الهند 72.9 مليار دولار، روسيا 61.7 مليار دولار، المملكة المتحدة 59.2 مليار دولار، السعودية 57.5 مليار دولار، ألمانيا 52.8 مليار دولار، فرنسا 52.7 مليار دولار، اليابان 49.1 مليار دولار، وصولاً إلى كوريا الجنوبية التي أنفقت 45.7 مليار دولار.
هذا مع العلم أن الإنفاق العسكري العالمي سجل قفزة تاريخية في عام 2023، ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 2.2 تريليون دولار، وسط تفاقم الأزمات والحروب حول العالم، من غزة إلى أوكرانيا، وصولاً إلى تايوان والقطب الشمالي وكوريا الشمالية.
وفيما يخص الدول العربية، جاءت السعودية بطبيعة الحال في المرتبة الأولى، بعدما أنفقت في 2020 حوالي 57.519 مليار دولار مقارنة مع 61.952 ملياراً في 2019. في حين جاءت الجزائر في المرتبة الثانية، والتي انخفض إنفاقها من 10.303 مليارات دولار في 2019، إلى 9.708 مليارات في 2020، اما العراق فقد أنفق 7.598 مليارات في 2019، و7.015 مليارات دولار في 2020، في حين انفقت الكويت 7.373 مليار دولار في 2019 و6.941 مليار في 2020.
وعلى الرغم من ان الدولة في العالم العربي ككل فشلت في اختبار الأمن القومي، وتعتمد إلى حد كبير على الحماية الخارجية والتسليح الأجنبي لرد التهديدات، فإن التكلفة الاقتصادية للإنفاق العسكري هي الأعلى بين كل دول العالم. وكما قلنا سابقا، تحتل 10 دول عربية صدارة قائمة الخمسة عشر الأولى في العالم من حيث التكلفة الاقتصادية للإنفاق العسكري، التي تقاس بنسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعني أن الإنفاق العسكري يمثل عبئا ثقيلا على التنمية الاقتصادية، نظرا لأنه يقتطع نسبة كبيرة من الناتج المذكور ويخصصها للمشتريات العسكرية وتمويل الاحتياجات المتزايدة للمؤسسات العسكرية.
في حين أن الآلية الثالثة هي آلية التحديث. ويقصد بذلك ان النمو المعتمد على تصدير النفط والمعادن يخفق في تحقيق التغيرات الاجتماعية والثقافية المفضية الى نشوء وترسخ حكم ديمقراطي.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان مؤثرات الريعية والقمع والتحديث متداخلة، يغذي بعضها بعضاً.
فمؤثر الريعية ينحصر في استخدام الحكومة للتدابير المالية لإبقاء السكان خاملين اقتصاديا؛
في حين يتركز مؤثر القمع في استخدام الحكومة للقوة (بفضل بناء اجهزة أمن داخلي كبيرة لإسكات المطالبة بالديمقراطية) لإبقاء السكان خامدين سياسيا؛
أما مؤثر التحديث فيتجه الى العوامل الاجتماعية التي تحافظ على خمود السكان (بسبب عدم انتقال السكان الى قطاع الصناعة والخدمات مما يجعلهم اقل ميلا للديمقراطية).
وهكذا، اذن، وبدلا من ان تتيح الثروة النفطية فرصا حقيقية للتراكم، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تمثله هذه الثروة من موارد مالية ضخمة جاهزة، فإنها غالبا ما افضت الى نشوء اقتصادات مشوهة وتابعة واحادية الجانب وريعية.
وبينما كان التحليل الاقتصادي العلمي لهذه الظواهر والعمليات يوصل إلى أن هذه المجتمعات على شفير الانفجار، قابله المنطق الليبرالي الذي كان يظن (ولا يزال ايضا!) أن الضغط السياسي على النظم سوف يجعلها أكثر ديمقراطية !، أو يميل البعض إلى الدفع باتجاه “التدخل الدولي” لتحقيق الديمقراطية، والتجربة العراقية تفقأ العين !!
ومن جانب آخر فان التحول الذي أفضى إلى انفجار الانتفاضات الشعبية في أوائل 2011 يجد انعكاسه في طبيعة الهيكل الاقتصادي الذي تكون بالترابط مع هيمنة الطغم المالية الإمبريالية التي باتت تنشط بالمضاربة وكل أشكال النشاط الريعي، أو القائم على النهب، إذ تهمّشت مجتمعات ونهبت، وجاءت المضاربة على السلع الغذائية سنوات 2007 و 2008، ثم الأزمة الاخيرة الناتجة عن جائحة كورونا.
ففي حين وفرت الريوع النفطية (بحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد لسنوات مختلفة بلغت الايرادات النفطية للدول العربية المصدرة للنفط والغاز الطبيعي 6,449 تريليون دولار خلال الفترة 2009 – 2020، أي بمتوسط سنوي مقداره 458 مليار دولار) خلال هذه الفترة امكانية اختزال قرون من الانتقال من الانظمة السابقة على الرأسمالية الى بناء اقتصادات معاصرة ونظم ديمقراطية فإنها، من جهة أخرى، حررت الدولة من الحاجة الى فرض الضرائب على المواطنين، وبالتالي لم تجد الدولة الحاجة الى منح مواطنيها حقوقا ديمقراطية مقابل تمويل المجتمع لحاجاتها.. وبدلا من ان تتيح الثروة النفطية فرصا حقيقية للتراكم الرأسمالي، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تمثله هذه الثروة من موارد مالية ضخمة جاهزة، فإنها غالبا ما أفضت الى نشوء اقتصادات تابعة ومشوهة تقوم على الاستهلاك البذخي، اقتصادات تتكل، الى حد كبير، في ادائها على الايرادات المالية الناجمة عن بيع الموارد الطبيعية في الاسواق الدولية، مما يجعلها عرضة للتقلبات التي تتعرض لها تلك الاسواق. اضافة الى ذلك، فإن استئثار القوى الحاكمة بالثروات الطبيعية يمنح النظام السياسي السائد الأداة الفاعلة لضمان استمراريته وشرعيته، عن طريق وسائل الفساد الاداري والحكومي، نتيجة تغليب مظاهر الولاء السياسي والقرابة والمحسوبية في توزيع الثروة على النشاط الاقتصادي الفعلي.
والخلاصة، إن التصرف بثروة نفطية كبيرة أتاح للدولة، والنظام السياسي السائد، والى مدى بعيد، التحكم بالحراك الاجتماعي وتراكم الثروة لدى الفئات والشرائح المختلفة. وبفضل ذلك استطاعت الانظمة السياسية في البلدان الريعية، خلال فترة زمنية وجيزة نسبيا، أن تلحق تغييرات جوهرية في الاصطفاف الاجتماعي، من خلال التحكم بتوزيع الثروة، مما افضى الى تدهور وتبدد شرائح وفئات اجتماعية، وظهور شرائح وفئات اخرى ترتبط مباشرة، من خلال وشائج الولاء والقرابة والتخادم، بالنخبة المهيمنة على الدولة ونظامها السياسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
- لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: النفط والاستبداد. الاقتصاد السياسي للدولة الريعية، .... مصدر سبق ذكره ، ص 146 ولاحقا