حقق الفيلسوف والاقتصادي سايتو كوهي رواجا كبيرا في اليابان منذ النجاح المفاجئ لكتابه المستوحى من الفكر الماركسي (هيتو شينسى نو شيهونرون)، والذي صدر بالإنكليزية بعنوان (ماركس في عصر الأنثروبوسين). في هذه المقالة يدافع عن رؤيته لمجتمع ما بعد النمو وما بعد الرأسمالية ويستكشف الخطوات العملية نحو هذا الهدف الطموح..
سايتو كوهي
أستاذ مساعد بكلية الدراسات العليا للفنون والعلوم بجامعة طوكيو. ولد عام 1987. حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هومبولت في برلين. فاز كتابه لعام 2017 الذي حمل عنوان (الاشتراكية البيئية لماركس: رأس المال والطبيعة والنقد غير المكتمل للاقتصاد السياسي) بجائزة دويتشر التذكارية لعام 2018 وترجم إلى تسع لغات. وقد فاز كتابه الأكثر مبيعا في اليابان لعام 2020 (هيتو شينسى نو شيهونرون) (الرأسمالية في عصر الأنثروبوسين) بجائزة آسيا للكتاب. ومن ضمن مؤلفاته الأخرى: (فهم الرأسمالية من الصفر)، بالإضافة الى مذكراته.
في كتابه لعام 2020 (ماركس في عصر الأنثروبوسين)، يتناول سايتو كوهي عدم المساواة الاقتصادية وأزمة المناخ، ويحدد الرأسمالية باعتبارها المشكلة الأساسية، ويقدم رؤيته لنظم ما بعد الرأسمالية، وما بعد النمو. ويشير مصطلح الأنثروبوسين، وهو مصطلح جيولوجي، إلى الفترة في تاريخ الأرض التي كان فيها النشاط البشري ذا تأثير مهيمن على البيئة. وبلغت مبيعات الكتاب نصف مليون نسخة باللغة اليابانية، الأمر الذي وضع العالِم الشاب في دائرة الأضواء الإعلامية في اليابان و حاليا في الخارج أيضا.
نحو فهم جديد للماركسية
كطالب في جامعة ويسليان في ولاية كونيتيكت، ذهل سايتو بالهوة القائمة بين الأغنياء والفقراء في بلد يعتبر من أكثر الدول ثراء في العالم. لقد أغضبته رؤية معاناة الشرائح المجتمعية الأكثر ضعفا في أعقاب انهيار وول ستريت عام 2008. وفي عام 2009، التحق بكلية الدراسات العليا في ألمانيا وكرس نفسه لدراسة كارل ماركس.
وخلال دراسته العليا، عثر سايتو على دفاتر ملاحظات غير منشورة من سنوات ماركس الأخيرة، ينتقد فيها الرأسمالية من وجهة نظر بيئية. وقد نشرت أطروحة سايتو حول هذا الموضوع في عام 2017 باسم (الاشتراكية البيئية لكارل ماركس: رأس المال والطبيعة والنقد غير المكتمل للاقتصاد السياسي)، والتي فازت بجائزة دويتشر التذكارية لعام 2018. وفي سن الحادية والثلاثين، أصبح سايتو أصغر وأول ياباني يحصل على جائزة- وسام التكريم الدولي الأعلى للكتابات في أو عن التقليد الماركسي. وتمت الاستعانة به أيضا للمساعدة في تحرير دفاتر ماركس من خلال مشروع (ميغا، ماركس-اِنغلز-غيزامات أوسغابيه)، وهو مشروع دولي مستمر لنشر الأعمال الكاملة لكارل ماركس وفريدريك إنغلز في إصدار نقدي محدَّث..
وليس من المستغرب أن تثير دعوة سايتو لـ ” تقليص النمو الشيوعي “ انتقادات جمة من منتقدي الماركسية.
ويعارض سايتو بقوله أنه من الخطأ الجسيم مساواة الشيوعية السوفيتية والصينية برؤية ماركس. ويصر على أن ”تلك الأنظمة لم تكن أمثلة على الاشتراكية بقدر ما كانت أمثلة على الرأسمالية البيروقراطية التي تسيطر عليها الدولة. حيث يعتقد الكثير من الناس بأنهم إذا لم يريدوا الاشتراكية، فإن الخيار الوحيد هو الرأسمالية”.
ويقول سايتو إن الرؤية التي تبناها ماركس في سنواته الأخيرة كانت رؤية مجتمع شيوعي يتطور من خلال التوسع التصاعدي لـ ”المشاعات“ (السلع العامة) وجمعيات المساعدات المتبادلة للعمال. ويؤكد سايتو أن هذا المثال- الذي يسميه ”تقليص النمو الشيوعي“- هو الهدف النهائي للماركسية..
الناتج المحلي الإجمالي ليس مقياسًا للرفاهية
يشرح سايتو أن الرأسمالية تصر على النمو الاقتصادي المستمر، ولا يمكن للبشرية أن تحل أزمة المناخ أبدا بينما تواصل السعي لتحقيق النمو. وهو يرفض نتائج مؤتمر الأطراف واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، والتعهدات الأخيرة بتحقيق حياد الكربون بحلول عام 2050- باعتباره ”التمويه الأخضر“. (تضليل المستهلكين بشأن الممارسات البيئية للشركات).
لقد قادت الرأسمالية التوسع العالمي للصناعة، مما أدى إلى تسريع التدهور البيئي بشكل كبير. وقامت الشركات متعددة الجنسيات بنهب موارد البلدان النامية مع الاستفادة من العمالة الرخيصة. وبينما أفادت العولمة المستهلكين في العالم المتقدم، فإن ”دول النصف الجنوبي من الكرة الأرضية“ لا يزال غارقا في الفقر. فوفقا لمنظمة أوكسفام العالمية ، فإن أغنى 10 في المائة من سكان العالم ينتجون أكثر من نصف الانبعاثات المضافة إلى الغلاف الجوي بين عامي 1990 و2015، بينما ينتج النصف الأفقر من البشر أقل من 10 في المائة فقط.
“فالأغنياء يطيرون في طائرات خاصة، ويمتلكون أعدادا من المنازل الفخمة، بل ويذهبون في رحلات إلى الفضاء الخارجي. أقل ما يمكنهم فعله هو استثمار بعض ثرواتهم في صحة كوكبنا. ويجب أن نفرض ضرائب باهظة على فاحشي الثراء وإعادة توزيع تلك الثروة مع التركيز على عمالنا الأساسيين”.
إن اعتماد الرأسمالية على النمو أمر يغذي الإنتاج والاستهلاك المتزايدين باستمرار، واللذين يسببان بدورهما مثل هذا الخراب البيئي. ويقول سايتو إن استخدام الناتج المحلي الإجمالي كمقياس لنجاح الاقتصاد يلخص هذا التركيز الخاطئ.
“ فنحن منشغلون بترتيب الناتج المحلي الإجمالي والنمو، لكن الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس ضعيف لرفاهية الأمة وسعادتها. وهنا في اليابان، لدينا طعام لذيذ، وأطول معمرين في العالم، وشوارع آمنة، ووسائل نقل عامة ممتازة، ناهيك عن عوامل الجذب الكبيرة في ثقافتنا وفننا. ولكن لا تنعكس هذه الأصول في الناتج المحلي الإجمالي. وعليه فإن اعتماد مؤشرات القيمة غير المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي أمر سيكون خطوة إيجابية في حد ذاتها نحو تقليص النمو”.
توسيع نطاق المفاهيم المشتركة
يقول سايتو إن مفتاح التغلب على أزمة المناخ والحد من عدم المساواة الاقتصادية هو توسيع ”المفاهيم المشتركة“. وهو يدفع بقوله بأن رأس المال قد احتكر الموارد والثروة التي يجب أن تكون من نصيب الناس: “أعتقد أن البنية التحتية الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان وإمدادات المياه والطاقة الكهربائية يجب أن تتحرر من آلية السوق ومنطق المضاربة والاستثمار وأن تكون ملكا مشتركا للشعب”.
ويشير إلى التطورات المشجعة في المدن الأوروبية مثل باريس وبرشلونة. حيث تولت شركة قطاع عام في عام 2010، بدلا من القطاع الخاص، وتبنت مدنا أخرى لإجراءات مماثلة. وفي برشلونة تم تعزيز النقل العام وفرض قيود صارمة على المركبات الخاصة والتوسع في المساحات الخضراء. وهو يرى في مثل هذه المبادرات نماذج طليعية لتوسيع المشاعات.
الأهمية الماركسية اليوم
ويقول: ”مع تفاقم الأزمة، يميل الكثير من الناس إلى تبني القيم المحافظة، حريصين على حماية مخصصاتهم. ومن المؤكد أن إطلاق حراك جماهيري مكرس لرؤية جديدة للشيوعية ليس بالأمر السهل في هذا المناخ. وعلاوة على ذلك، لا يمكن لمبادرات شاملة أن تذهب بعيدا في معالجة أزمة بهذا الحجم. وفي الواقع، هناك خطر متزايد من أن الناس سوف يتحولون إلى الحكم الاستبدادي. ولكن في مثل هذه الأوقات، هناك حاجة أكثر إلى التفكير السليم من الناحية النظرية في الطريق نحو تغيير المؤسسات القوية كالدولة والأسواق. ويضيف: “انها قضية معقدة. لكن هناك شيء واحد يمكننا قوله على وجه اليقين وهو أن الرأسمالية وصلت إلى طريق مسدود. ولهذا السبب يتعين علينا أن نكون أكثر إبداعا في رؤيتنا لحراك ومجتمع يمكنه الحفاظ على الديمقراطية وحماية رفاهية المستضعفين اجتماعيا”.
ويعتقد سايتو أن هناك حاجة إلى إعادة تقييم ماركس لإقناع المزيد من الناس بأن الرأسمالية هي السبب الجذري لشعورهم بالضغط الاقتصادي والتهميش والصراعات الحياتية. وهذا هو السبب في أنه يواصل الدعوة إلى “تقليص النمو الشيوعي”.
و”السؤال الآن هو كيف يجب أن نقوم بتغيير النظام الحالي؟ بمجرد أن نصل إلى النقطة التي يطرح فيها الجميع هذا السؤال، يمكن القول حينها أن هناك انفراجا. واعتقد أننا في مفترق طرق، وما سنفعله في العشر أو العشرين سنة القادمة سيحدد مصير البشرية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن مقالة بعنوان: نظرة مختلفة للشيوعية- حديث مع الخبير الاقتصادي الياباني سايتو كوهي، بقلم يوشيي تائيكو، نشرت في موقع (اليابان بالعربي) بتاريخ 24 نيسان 2023.