يمثل المفكر محمود أمين العالم (2009-1922) صاحب الإنجازات الوفيرة في الثقافة العربية المعاصرة، وصاحب الإسهامات الواضحة في الفكر الفلسفي والنقدي، حالة خاصة في الثقافة المصرية والعربية، من خلال مؤلفاته المتعددة مثل “فلسفة المصادفة” و”ثلاثية الرفض والهزيمة” و”في الثقافة المصرية”, و”تأملات في عالم نجيب محفوظ” “وأربعون عاما من النقد التطبيقي” وغيرها. كانت تجربة “محمود أمين العالم” الفكرية استكمالا لتجارب تنويرية سابقة عليه مثل تجربة د. طه حسين، وسلامة موسي، وعلي مبارك ورفاعة الطهطاوي وشبلي شميل وفرح أنطوان وغيرهم ممن حملوا لواء التنوير في الثقافة العربية خلال المائتي عام الماضية. وقد تميزت رؤيته الفكرية بالتجديد المستمر وفق متطلبات العصر، فكان يؤمن بدور المثقف في الواقع الذي يعيش فيه. حيث ربط بين النظرية والتطبيق, فطهرت آراؤه الاصلاحية مبكرا سواء علي المستوي الثقافي أو علي المستوي الاجتماعي والسياسي. وقد تعددت صور ذلك، ضاربا مثالا واضحا لما سماه جرامشي بالمثقف العضوي, منطلقا في ذلك من الجملة التي كان يرددها دائما: “النظرية رمادية, لكن شجرة الحياة خضراء”, وهو بذلك يؤكد على المعني الجوهري لدور المثقف، وهو أن يقترب من واقع الاشياء التي يناقشها، لا أن يسكن في البرج العاجي الذي لا يري من خلاله الاشياء جيدا. ونتيجة لأفكاره الجريئة ورؤيته المستنيرة الكاشفة والراصدة والمتمردة، فقد عاني “العالم” الكثير من الاضطهاد والإقصاء ومنها الاعتقال السياسي في الفترة ما بين (1959 وحتي 1964) في سجن الواحات مع عدد كبير من أهم مثقفي ومبدعي مصر ومنهم فؤاد حداد والفريد فرج ونبيل زكي وفوزي حبشي وصنع الله ابراهيم وسمير عبدالباقي وغيرهم. تلك التجربة القاسية التي تغلب عليها كثير من هؤلاء- أثناء فترة الاعتقال- بأن حولوها إلي شكل ثقافي من خلال انشاء مسرح الواحات وقدموا مجموعة من العروض بعد أن صممه وبناه المهندس فوزي حبشي داخل أسوار معتقل الواحات. كما أصدر هؤلاء المعتقلون- عدة صحف حائط- وقتها، عبروا فيها عن آرائهم. وهكذا ضربوا مثالا واضحا على أن الثقافة قد تولد من جوف ظلمة السجن، نظرا لانها فعل تمرد وإضاءة وكشف لكل ما هو زيف في الحياة.
دعوة للتجديد
كما كان “العالم” صاحب فكر وثاب، رافضا للجمود، يغير من أفكاره- أحيانا- اذا وجد انها لا تلائم العصر وتطوره. وقد ظهر ذلك- جليا- بداية من كتاب “في الثقافة المصرية” والذي ألفه بالمشاركة مع صديقه المفكر الراحل د. عبدالعظيم انيس عام 1955. هذا الكتاب الذي يقول عنه المفكر اللبناني الراحل د. حسين مروة في مقدمته للطبعة الاولي للكتاب عام 1955: “وهكذا نسير مع المؤلفين في صفحات الكتاب موضوعا موضوعا، وفكرة فكرة، وقضية وقضية، فنجد هذا التواثق الحي بين المقاييس العامة وبين مشخصاتها التطبيقية، ونجد هذا التواثق نفسه ايضا بين القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي وبين التطبيق الدقيق اليقظ لهذه المقاييس، بحيث يصح أن نجعل من هذه الدراسات مرتكزا- لكل محاولة نقدية ثقافية في اي بلد من بلداننا العربية، وأن نتخذ من هذه الدراسات كذلك منهجا علميا للكشف عن كنوز ثقافتنا الوطنية, ولإحياء تراثنا الفكر العربي القديم حين تيسر لنا أن نتوفر علي احياء هذا التراث وفق أسس نقدية موضوعية حية من هذا القبيل”. ويضيف مروة: “لقد جاءت هذه الدراسات في وقت الحاجة الى مثلها، لكي نضع مسألة الادب الواقعي, ومسألة الثقافة الوطنية للبلدان العربية في مكانهما من حركة التحرر الوطني العارمة الوثابة في أقطار الشرق كله، وفي مكانهما ايضا من هذه المعركة الضارية التي يخوضها اليوم كتاب العرب الاحرار إلي جانب قوى السلم والاستقلال والتقدم ضد الكتاب الاخرين الذين يقفون في المعركة عن وعي وغير وعي- إلى جانب قوي الحرب والدمار والاستعمار، تلك التي يشتد بها اليوم سعار الاضطهاد للفكر الانساني التقدمي في كل مكان، لأن هذا الفكر يملأ قلوبها رعبا، ويزلزل أركانها زلزالا”.
معارك ثقافية
وقد كان كتاب “في الثقافة المصرية” – وقت صدوره - لحظة فارقة في مسيرة الثقافة المصرية نظرا لما تضمنه من أفكار جديدة ورؤي مغايرة. وهذا ما أشار اليه “انيس” و”العالم” في مقدمتهما الثانية للكتاب- في طبعته عام 1959: حيث جاء في المقدمة: ”الحق أن هذا الكتاب ليس كتابنا وحدنا، وإنما هو الابن الشرعي لمرحلة حية من مراحل الغليان والتحول في الإبداع الأدبي والفكري خلال سنوات الأربعينيات وبداية الخمسينيات. والغريب أنه أخذ صيغته هذه على نحو لم يكن مقصودا به أن يكون كتابا. فالحاصل ان استاذنا الدكتور طه حسين نشر مقالا بعنوان “صورة الادب ومادته” معتبرا أن اللغة هي صورة الادب وان المعاني هي مادته، فكتبنا ردا عليه مختلفين معه حول هذا التحليل للادب الي لغة ومعنى، مفضلين تحليله الى صياغة ومضمون. وما كنا في الحقيقة نقصد أبعد من تقديم رؤية للأدب تختلف عن الرؤية التي كانت سائدة، والتي كان يغلب عليها الطابع الانطباعي الذوقي من ناحية أو الطابع الكلاسيكي التقريري من ناحية أخرى. فما قصدنا ابعد من تحديد الدلالة الاجتماعية للادب (لا الدلالة البيئية كما كان شائعا آنذاك) في ارتباط عضوي حميم مع بنيته التي تصوغه ادبا. ولكن سرعان ما اعتبر هذا المقال بيانا” أو “مانفيستو” أدبيا جديدا، وتفجرت حوله معركة أدبية حادة علي صفحات الصحف المصرية عندما اتهم الدكتور طه حسين مقالنا بأنه “يوناني لا يقرأ” وعندما خرج اتهام الاستاذ عباس العقاد لنا عن حدود النقد الادبي إلى حدود الادانة البوليسية بقوله في رده علينا “إنني لا أناقشهما وانما اضبطهما .. إنهما شيوعيان”!
صراع بين جيلين
كانت هذه المعركة الثقافية من أقوى وأشرس المعارك الفكرية التي مرت علي تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة، لأنها كانت صراعا بين جيلين لكل منهما تكوينه الثقافي والمعرفي المختلف عن الآخر. وكان لهذا المقال- والذي ضمه كتاب “العالم” و”أنيس” بعد ذلك تداعيات صعبة علي كل منهما. ففي اواخر سبتمبر عام 1954 اصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بفصل الاثنين من وظيفتهما كمدرسين بجامعة القاهرة، عبدالعظيم انيس من قسم الرياضة البحتة بكلية العلوم، ومحمود أمين العالم من قسم الفلسفة بكلية الاداب. وسافر “أنيس” الى لبنان ليعمل عدة شهور مدرسا بمعهد الاحصاء الدولي في بيروت، وليبدأ كتابه سلسلة مقالات عن الرواية المصرية الحديثة علي ضوء تطور النضال الوطني والاجتماعي في مصر بمجلة (الثقافة الوطنية) التي كانت المجلة الثقافية للحزب الشيوعي اللبناني، وتفرغ “العالم” لكتابة مقالات في النقد الادبي في مجلة “الاداب” اللبنانية وغيرها من مجلات وصحف تلك المرحلة. ومن لبنان كتب “أنيس” الى “العالم” يعرض عليه اقتراحات من بعض أدباء بيروت بتجميع كل هذه المقالات واصدارها في كتاب واحد. وتمت الموافقة، وقام الكاتب اللبناني محمد دكروب بتجميع المقالات وأشرف على اخراجها ونشرها في كتاب فكتب له المقدمة د. حسين مروة, وجاء الكتاب تحت عنوان “في الثقافة المصرية” وصدر في طبعته الاولي عام 1955. وبصدور هذا الكتاب تحولت المقالة التي كتبها “أنيس والعالم” ردا على طه حسين مع بقية المقالات الاخرى إلى رؤية متكاملة في النقد الادبي العربي المعاصر جمعت بين الجانب النظري والتطبيقي معا”. ومع صدور الكتاب تجددت المعركة مرة أخرى بل جاءت أكثر شراسة. بدأت بمقال نشر في مجلة “الرسالة الجديدة” في عدد الاول من يونيو 1956 بقلم كمال يوسف (وهو فيما كان معروفا انذاك الاسم القلمي للاستاذ ابوسيف يوسف تحت عنوان “نقادنا الواقعيون غير واقعيين” والمقال يتهم الكتاب بأنه يمزق الجبهة الادبية ويجرح الادباء ويستفزهم, ويأخذ على الكتاب أنه يكثر من الاستفادة من الامثلة الاجنبية في نقده بدلا من الاستناد إلي التراث القومي والشعبي, كما يأخذ عليه غموض تعابيره مما يجعلها عصية على فهم القراء, ولهذا فهو غير موجه للشعب، ولم يكن طه حسين متجنيا عندما قال “يوناني لا يقرأ”. وفي مقدمة الطبعة الثانية للكتاب يرد “العالم وأنيس” على هامش النقد قائلين: ”الملاحظ في هذا النقد انه لم يتبين الدلالة الاجتماعية التي كان هذا الكتاب حريصا على إبرازها في مواجهة النقد الانطباعي السائد بل لعل هذا النقد كان يسعي إلى تغليب الدلالة القومية في النقد الادبي على الدلالة الاجتماعية. والحقيقة ان هذا الكتاب لم يكن خاليا من البعد الوطني والقومي والشعبي وان كان الجديد فيه هو ابراز الدلالة الاجتماعية الطبقية في ارتباط عضوي مع البنية الجمالية، وكان – كما ذكرنا من قبل- يشارك في معركة الديموقراطية التي كانت محتدمة في ذلك الوقت بين اليسار أو جانب منه وبين السلطة الناصرية”.
الثقافة والثورة
وواصل محمود أمين العالم رؤيته التي بدأها مع كتاب “في الثقافة المصرية” ولكن- في إطار أكثر اتساعا وتطورا- في كتاب “الثقافة والثورة” والذي صدر عام 1970 حيث أكد في مقدمته أن الصراع الذي احتدم حول نظرية في النقد الادبي أو النقد الثقافي بشكل عام، وكان مدار هذا الصراع، هو طبيعة العلاقة بين الثقافة – من ادب وفن وفكر- وبين متطلبات الثورة التحريرية والاجتماعية والقومية: كان في الحقيقة تعبيرا عن صراع أعمق, هو الصراع الطبقي في مجتمعاتنا العربية كلها, طوال هذه المرحلة التاريخية التي لاتزال متصلة حتي يومنا هذا”. ويضيف “العالم” قائلا: “إذا كانت تلك النظرية العلمية في النقد الثقافي، أو تحديد الوظيفة الاجتماعية للثقافة عامة، قد استقرت ورسخت إلى حد كبير، بل أصبحت لها اليوم, السيادة في حياتنا الثقافية والاجتماعية الراهنة، فإن بعض بقايا تلك الاتهامات القديمة لاتزال تتنفس، وتتحرك متخفية وراء أقنعة جديدة.
ولعل هذا ما دعاني الى التفكير في تجميع هذه الطائفة المتنوعة من المقالات التي شاركت بها في هذا الصراع- طوال تلك المرحلة- تحديدا وتأكيدا لملامح تلك النظرية النقدية. إذن كان كتاب “الثقافة والثورة” استكمالا لمعركة فكرية ونقدية خاضها العالم- منذ كتابة الاول “في الثقافة المصرية. وهنا تكمن جسارته النقدية وموقفه الواضح من الاعمال الادبية.
فهو صاحب نظرية “الواقعية الاشتراكية في الأدب”, وان كانت لنا كثير من الملاحظات حول هذه النظرية, التي غلبت المضمون الاجتماعي على المضمون الادبي, فأدخلت أدباء ليسوا على قدر كبير من الموهبة وأعلت من قدرهم مقابل تهميش من هم أكثر تجديدا في الادب العربي, بدعوي أن أعمال هؤلاء أكثر قربا من التعبير عن الواقع الاجتماعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأهالي” المصرية – 4 آذار 2023