لم يُثر رجل مشتغل بالفكر والأدب ما أثاره طه حسين (1889 - 1973) من قضايا وتحديات في عالمنا العربي.

هو العربي الأول المرشح لجائزة نوبل في الآداب، ومن أوائل المبتعثين لدراسة الآداب في الغرب وتحديداً فرنسا. وأوائل من أجادوا لغتين وثقافتين: الفرنسية والعربية، إضافة إلى معرفته بلغات قديمة كاللاتينية، ومن تخصص بعمق في حقول معرفية مختلفة كالأدب واللغة والتاريخ وعلم الاجتماع، فكان أحد الموسوعيين العرب الكبار في القرن العشرين.

لم يتقوقع داخل حدود الفكر كما فعل أحد أشهر تلامذته عبد الرحمن بدوي، بل اشتبك مع الحياة العامة عبر مقالاته الصحافية، وأحاديثه الإذاعية، فكان مناضلاً أثار غبار المعارك وسط عامة الناس. اشتبك مع بدهيات المجتمع العربي، فأصاب وأخطأ، وحورب، وطُرد من الجامعة وعاد إليها.

اشتغل أيضًا بالسياسة في الفترة الليبرالية الذهبية في مصر، وانتمى إلى حزب مناوئ لحزب الوفد الحاكم آنذاك، وأوصله ذلك إلى منصب وزير المعارف (التعليم) لمدة عامين فخلدت مقولته بأن التعليم كالماء والهواء، أي حق لكل إنسان.

ورغم كل معاركه، بما في ذلك التشنيع فيه من قبل المحافظين والجماعات المتشددة، ظل ملء السمع والبصر، وتقلد كل المناصب الرفيعة بما فيها عمادة كلية الآداب في جامعة القاهرة، ورئاسة جامعة الإسكندرية، ورئاسة مجمع اللغة العربية، وكرم بأرفع الجوائز والأوسمة مصرياً وعربياً ودولياً، بما فيها وسام الأرز اللبناني. واستقبل أينما حل استقبال الملوك، لدرجة أنهم عندما حج استقبله الملك سعود بن عبد العزيز.

كل تفصيلة في حياته تجعله مثار الإعجاب، بدءاً من تحديه لآفة العمى التي كانت كفيلة بأن يبقى في سجون الجهل والفقر والنسيان، مع ذلك بلغ قمماً لا ينازعه فيها أحد.

ولا ننسى قصة حبه وزواجه الذي امتد لنحو خمسة وخمسين عاماً من السيدة الفرنسية سوزان بريسو، التي كانت له يداً وبصراً، وقارئة نهمة.

مسارات عظيمة وملهمة فرضت سيرته دائماً على التلفزيون والسينما والإذاعة، كما حدث في المسلسل الشهير “الأيام” حين لعب دوره أحمد زكي، في أحد أجمل مسلسلات السير العربية.

أيقونة

فرض طه حسين نفسه أيقونة للثقافة العربية الحداثية، ورأس حربة ضد الرجعية والتخلف. وعندما انحرف مسار ثورة يناير بسبب هيمنة جماعات دينية متشددة على الحدث، تحرك المبدعون والمثقفون ضدها، واستعادوا كلمات طه حسين ورفعوا صوره “الأيقونية” في مظاهراتهم. حاربوا الإرهاب، بنظارته السوداء الشهيرة التي يختبئ وراءها وعي بصير.

بهذا المعنى، كلما انتكس الوعي العربي، ومضت أيقونة طه حسين للاحتماء بها.

عقلانية

قلما يكون لدينا أديب معاصر بموسوعية طه حسين، لكنّ مكانته لا تتأتى من اتساع ثقافته، وإنما من كونه مثل قيم العقلانية والحداثة، بحكم انتمائه إلى الثقافة الفرنسية المؤسِسة لعصر الأنوار الأوروبي.

عقلانية آمنت بحق كل مواطن عربي في التعليم والمعرفة، والنقد، والشك. وهو اتجاه مضاد لخطاب رجعي ومتشدد قائم على الإتباع وليس الإبداع، التسليم لا الشك، السمع والطاعة لا التعبير عن الذات.

ولعل أشهر معاركه تمثلت في كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي انتهى به إلى النيابة العامة، لأنه طرح ضرورة فصل الدرس الأدبي عن المعتقد الديني، ومشروعية الشك ومساءلة تراثنا الإسلامي والعربي.

ما وراء الثقافة

اتسع مشروعه لأكثر من ستين عاماً، وترك منجزاً يضم عشرات المؤلفات في مسارات عدة أولها: التأريخ والثقافة الإسلامية مثل “على هامش السيرة” و”الفتنة الكبرى” و”علي وبنوه”. بهذا المعنى لم يكن طه ضد الإسلام، كما شنع خصومه، وإنما رغب في إعادة الصلة بتراثنا من منظور نقدي وعصري.

ثانيها: مسار نقدي وفكري مرتبط بعلوم التاريخ والفلسفة والاجتماع، مثل كتابه “فلسفة بن خلدون” أو ما كتبه وترجمه عن الثقافة الأوروبية.

ثالثها: مسار أدبي رائد ومؤسس- نقداً وأدباً- بلغ ذروته في سيرته “الأيام”، واحتفاء السينما والتلفزيون بنتاجه الإبداعي مثل فيلم “دعاء الكروان” و”الحب الضائع”.

رابعها: مسار عام على مستوى المناصب الرفيعة التي تقلدها، وحضوره في الصحف والتلفزيون والإذاعة، ومقالاته وأحاديثه. فهو مفكر في معركة وليس في برج عاجي. لم يكتف ب “إنتاج” الثقافة بل انشغل بدورها ووظيفتها في المجتمع، وماذا وراءها. كما عبر عن ذلك في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”.

من ثم فإن استعادته مبررة ومشروعة دائماً، إما استثماراً لأيقونته، أو عقلانيته الممثلة لقيم عصر الأنوار، أو لاشتغاله الواسع بالثقافةـ تنظيراً وتطبيقاً ـ كمحفزة للوعي الجمعي، ومشتبكة مع مجتمعها وعصرها.

فأي تراجع على أصعدة الثقافة العربية المختلفة، استدعى دائماً استعادة طه حسين.

احتفالات لا تنتهي

إذا كانت أيقونية طه حسين تعبر عن مظلة واسعة من المسارات والأفكار والقيم الحداثية، فإنها أيضًا تحمل رمزية دعائية واستهلاكية لا يُستهان بها.

لا شك أنه كان أباً روحياً من آباء الحداثة العربية العظام، وأنجب عشرات التلاميذ المؤيدين والمختلفين، فيصعب تصور مشاريع أمين الخولي أو نصر أبو زيد، أو جورج طرابيشي، أو عبد الرحمن بدوي، أو صادق جلال العظم، وصولاً إلى عبد الفتاح كليطو... من دون ظلال طه حسين.

فلماذا لا يحظى كل هؤلاء بالحضور الرسمي والشعبي الذي يتمتع به إلى يومنا هذا؟

لأنه يتفوق عليهم بالرمزية الاحتفالية، هو “النجم” الصالح لكل أنواع التوظيف، بما في ذلك الهجوم عليه. هو الأكثر قابلية للاختفاء خلفه وتمرير وتبرير كل أنواع الرسائل.

يشبه في ذلك نجومية أم كلثوم في الطرب ونجيب محفوظ في الرواية. يكفي حضوره الأيقوني لمد جسور بين السلطة والشعب، النخبة والجمهور، الحداثة والتراث، القيمة والشهرة.

ذكراه الخمسون

برر معرض القاهرة الدولي في دورته التي انتهت أخيراً استعادة طه حسين بالذكرى الخمسين لرحيله.

من هذا المنطلق أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة نشر بعض كتبه بإشراف الشاعر والناقد جرجس شكري، ونُشرت تقارير عن الإقبال الجماهيري على كتبه ونفاد بعضها. كما أقيمت ضمن المعرض ندوة بعنوان “منهجية طه حسين” بحضور كُتاب وأكاديميين.

في السياق نفسه صدر كتاب “هوامش العميد: ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين” للناقد والأكاديمي أيمن بكر، عن الهيئة العامة للكتاب، ومن العنوان يتبين انشغال بكر بالنصوص الهامشية والموازية مثل عناوين كتب طه حسين ونبذه وهوامشه وإهداءته ومقالاته القصيرة وشذراته. أي أنه آثر ولوج عالم طه حسين من الهامش وليس المركز، من النافذة الضيقة لا الباب الواسع.

وقبل أشهر اختير طه حسين الشخصية المحورية” لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحادية والثلاثين وأقيمت الندوات حول الاسم والرمز والدور والمنجز بحضور أسماء بارزة في مقدمتها الشاعر السوري أدونيس والناقد المصري الراحل صلاح فضل.

وهكذا لا تتوقف مناسبات استعادة طه حسين عند قوس ولادته ورحيله، ولا يخلو كل عام من ندوة عنه هنا أو هناك. بل إن معرض القاهرة للكتاب نفسه سبق أن اختاره شخصية العام في الدورة الـ 45 عام 1914 بإشراف الناقد والأكاديمي أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب آنذاك، وهي  الجهة المنظمة للمعرض.

وكان المبرر الرد على سنة حكم “الإخوان”، وكأن الخلاص منهم، يستوجب الاحتفاء بأكبر خصومهم: طه حسين.

 تناقض الدلالة

إن الاستعادة الأيقونية، تنطوي على دلالتين متناقضتين، إما التأكيد على قيمته وقيمه، وإما الاحتفال الطقوسي والشكلاني الذي يستثمر في “نجوميته”.

ولو كان الأمر أمر قيم فإن تجارب عشرات الأسماء التي خرجت من عباءته جديرة أيضاً بالاستعادة.

لذلك قد يكون حضوره “تغييباً” له، دعائية براقة للاشيء، تحضر العلامة وتغيب الدلالة تحت كثافة الضوء. فما الجديد الذي ينتج من كلام المتخصصين فيه؟! هل ظهر على منصات الاحتفاء شباب في الثلاثينيات ولدوا بعد رحيله بسنوات طويلة، وتحدثوا عن اشتباكهم معه أديباً ومفكراً، وصدى تأثيره عليه؟ هل ظهر على المنصات إسلاميون ناصبوه العداء ثم تراجعوا وأعادوا تأويله؟

هل طه حسين- وهو وزير تعليم سابق- حاضر كما يجب في مناهج التعليم؟ أم أن معظم المقررات في العالم العربي تعاديه علنًا وضمنًا، وتنطلق من منهجية مضادة له؟

ألا يعني الإلحاح عليه أن ثقافتنا العربية تعيش ردة عما نادى به قبل قرن؟ لأن استفحال المرض يستدعي الطبيب. لذلك كلما شعر المسؤولون عن الثقافة العربية بتردي الوعي الجمعي نادوا بطه حسين

أليس تجديد ذكراه، والاحتماء بأيقونته، أمر رائع في ذاته؟ قطعاً هذا أمر طيب. لكن عدم اشتباك استعادته مع الواقع المتردي نفسه قد يعتبر خيانة، لمفكر عاش مشتبكاً، وظل ـ في حياته وبعد رحيله ـ مثيراً للمعارك.

ألا تجتر ثقافتنا ذاتها، ولا تحسم أياً من قضاياها، بل تلتذ بالطقوس الاحتفالية واستهلاك الأيقونات وتمجيدها؟ فينقلب طه حسين من مشعل تنوير، إلى صنم تقديس.

مؤكد أن ما نحياه الآن ليس هو ما حلم به طه حسين.. ليس هذا التعليم هو ما نادى به، ولا تلك الثقافة هي التي وهب حياته للدفاع عنه، ولا هذا الوعي الجمعي هو الوعي الحداثي الذي تشهاه.. ولا تلك السلطويات الوصائية تعبر عن تصوره الديموقراطي في الحكم والمعرفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“النهار العربي” -  24 شباط 2023

عرض مقالات: