بعض المؤسسات الثقافية الألمانية، الحكومية منها أو تلك التي يديرها المجتمع المدني، بلغت درجة من الانحطاط السياسي لم تعد تنفع معها مواقف الازدراء أو الاستنكار أو الاستهجان؛ وبات الإشفاق، على علاته الكثيرة، هو الشعور الأنسب إزاء ما تتخذه من قرارات ثقافية، وما تنقلب فيه إلى نقيض تلك القرارات ذاتها، أو إلى خلاصات فاضحة وهابطة وبائسة بصددها. آخر الأمثلة في هذا المضمار قضية الكاتبة المسرحية والشاعرة البريطانية الكبيرة كاريل شرشل: لجنة تحكيم شوسبيل شتوتغارت منحتها «جائزة الإنجاز مدى الحياة»، ضمن جوائز الدراما الأوروبية لعام 2022؛ ثم عادت اللجنة ذاتها فسحبت القرار، على قاعدة أن شرشل تؤيد حركة المقاطعة الفلسطينية الشهيرة BDS، التي تناهض نظام الأبرتهايد الإسرائيلي. لافت أن لجنة التحكيم اتخذت قرارها في نيسان الماضي، وسحبته قبل أيام قليلة فقط، الأمر الذي يشير إلى زمن اختمار الضغوطات التي اعتادت المجموعات المناصرة لدولة الاحتلال أن تمارسها ضد قرارات كهذه؛ من زاوية أن البرلمان الألماني كان في عام 2019 قد صوّت لصالح تشريع يصنف تأييد الـBDS ضمن معاداة السامية.

لم يتأخر 170 من الكتّاب والمسرحيين والفنانين عن إصدار بيان مشرف، لا يكتفي باستنكار سحب الجائزة والانتصار لأحقية شرشل بها فحسب، بل يذهب أيضاً إلى عمق المسألة وجوهر الحوافز وراء هذا السلوك الذي صار أشبه بالقاعدة: «هذا الهجوم على حرية الضمير ليس أقل من مكارثية الزمن الحديث»

ذلك لأن مواقف شرشل ليست البتة جديدة، في مناصرة حقوق الشعب الفلسطيني عموماً، فهل كانت لجنة التحكيم غافلة عن تلك المواقف حين منحت الجائزة لكاتبة مسرحية تستحقها بامتياز؟ وهل غابت هذه الحقيقة الساطعة عن ذهن (ومكاتب ومستشاري وناصحي) بيترا أولشوفسكي وزيرة الدولة في وزارة العلوم والبحث والفنون الألمانية، التي سارعت إلى تأييد سحب الجائزة، قائلة: «في ألمانيا تقع على عاتقنا مسؤولية تاريخية. ولهذا فإننا كبلد نتخذ موقفاً واضحاً وغير قابل للتفاوض ضدّ أي شكل من أشكال العداء للسامية»؟ مدهش، إلى هذا، أن لجان التحكيم تصوّت وتسوق الحيثيات وتسرد المدائح حين تمنح الجوائز، ثم تقع تحت ضغط هنا أو حملة هناك، فتتراجع وكأنها لم تكن الجهة التي تحمست وأطنبت ومنحت. سوابق المؤسسات الثقافية الألمانية كثيرة، في هذا الميدان تحديداً، وقد طالت موسيقيين من أمثال بريان إينو وكاي تمبست ويونغ فاذرز وطالب كويلي، والروائية كاميلا شمسي، والفنان وليد رعد، والفيلسوف أشيل إمبيمبي، وبيتر شافر المدير السابق للمتحف اليهودي في برلين…

وهو ما يثير أسئلة ملحة حول نسق التنكيل والإخراس في ألمانيا، وأبعد. ونحن نشدد على أن أهداف حركة الـBDS التي يقودها الفلسطينيون هي إنهاء الاحتلال والمساواة التامة لمواطني إسرائيل الفلسطينيين، وحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهذه كلها متفقة مع القانون الدولي». وفي عداد الموقعين نقرأ أسماء برايتن برايتنباخ، جولي كريستي، جوديث بتلر، جاكلين روز، أنجيلا دافيز، ستيفن فريرز، كين لوش، أكي كوريسماكي، مايك لي، وكاميلا شمسي؛ واللائحة الحافلة تشكّل صفعة تفضيح بليغة في وجه تلك المؤسسات الثقافية الألمانية، خاصة وأن عدداً غير قليل من الأسماء الموقعة على البيان هم يهود استنكروا، ويواصلون استنكار، هذا التوظيف الخبيث والانحطاطي لمفهوم معاداة السامية.

وشرشل قدمت إلى المسرح قرابة 50 مسرحية، و13 تمثيلية إذاعية، و7 مسلسلات تلفزيونية، ولديها 6 مخطوطات غير مطبوعة؛ ولائحة تكريمها تضم 12 جائزة، بريطانية وعالمية؛ وكل هذا الإنجاز الحافل لم يغادر، مرة واحدة، خيارات مركزية سياسية وأخلاقية وجمالية تُمسرح بشاعات استخدام السلطة/ القوة، وتجنح إلى تقنيات خشبة مفتوحة، وتدرج موضوعات القمع والتحرر وسياسات الجنس والإفقار والاستغلال. وهذه السطور تثمن عالياً مجموعة أعمال مثل «شراك»، 1976؛ و«مال جادّ»، 1987؛ و«فم ممتلئ بالطيور»، 1986؛ و«قلب أزرق»، 1997؛ كما تنحاز خصوصاً، وبقوة، إلى «مخمور بما يكفي لأقول أحبك»، 2006، المسرحية التي تعكس بصفة أعلى قدرة شرشل الفائقة على مسرحة هواجس البرهة المعاصرة وهمومها، عبر سلسلة من كوابيس الواقع وليس استيهامات الخيال واعتلالات المخيّلة. العالم عندها منقسم إلى أولئك الذين يملكون، وأولئك الذين يُمتلَكون؛ والمآزق المختلفة المتنوعة التي تنجم عن هذا الانقسام هي المعادلات التي تنيخ بأثقالها على رجال ومجتمعات، ثمّ على نساء بصفة خاصة، وهي بالتالي موضوعات مسرح لا يعف عن السياسة ولا يخجل من إعلان المعارضة والانشقاق. «معظم المسرحيات يمكن النظر إليها من زاوية سياسية»، تقول شرشل، وتضيف: «ولكن لن يقال إنها سياسية إلا إذا ناهضت الأمر الواقع».

النقد المسرحي، البريطاني والأوروبي والعالمي، تناول أعمال شرشل من زوايا متعددة ومتقاطعة ومتشابكة، يندر أن تحظى بها كتلة أعمال مسرحية بهذا الحجم. المثال على ذلك كتاب «دليل كامبرج إلى كاريل شرشل»، بتحرير إيلين أستون وإلن دياموند؛ الذي صدر سنة 2009 واحتوى الموضوعات التالية: «النسوية وسياسة الجنس»، «الامتلاك والاستحقاق: كابوس رأس المال»، «تحدّي الثورة»، «النصّ والرقص: مسائل جديدة وأشكال جديدة»، «مسرح شرشل البيئي: الحق في تسميم الدبور؟»، «شرشل والرعب»؛ وسوى ذلك من قضايا وإشكاليات تليق بكاتبة كبيرة، كشفت (من دون أن تقصد) سوءات مؤسسة ثقافية ألمانية متقلبة الرأي والسلوك، منافقة ومريضة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“القدس العربي” – 4 كانون الأول 2022

عرض مقالات: