الماركسية ما تزال حية وصالحة للتعامل مع ظاهرات الواقع، ومستجداته، يستفيد منها المناضلون من أجل العدالة، كما يستفيد منها الباحثون في مختلف فروع العلوم الإنسانية، وكذلك الباحثون في تطور النظام الرأسمالي نفسه، إضافة إلى دعاة الاشتراكية وهم يبحثون عن طريق أو طرائق جديدة إليها. مثال على هذا، كتاب (تجدّد ماركس)، تأليف الباحث السوري عطية مسوح، الذي جاء في 151 صفحة من القطع المتوسط، صمَّم غلافه عبد العزيز محمد، وصدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
في ظني، محاولة جعل ماركس يتحدث لغة حديثة شعبية وبسيطة ومفهومة للجميع ليست مهمة مستحيلة، وأجرؤ على القول بأن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله، يفهم - على بساطته وأميته - ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندعي فهم ماركس ونظريته. فأنت تستطيع الآن أن تعكف على قراءة ماركس، وستكون سعيداً إذا فهمته. ولو عدت إلى الارهاصات الأولى لتكوّن المنهج الماركسي في التفكير ستجد أمامك كتيب (مبادئ الشيوعية) الذي ألفه فريدريك أنجلز في تشرين الثاني عام1847 كصيغة أولى لتعريف الشيوعية. وهي صيغة جميلة على كل حال في أسئلة وأجوبة. يطرح أنجلز السؤال ثم يجيب عنه. عرض هذه الصيغة على رفيق دربه كارل ماركس، وكانت أول وثيقة واضحة المعالم عن المفهوم الجديد للعالم الذي تبلور في عقل الشابّين. تمّت صياغة شكل البيان ونشر تحت عنوان (البيان الشيوعي) بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط عام 1848. كان ماركس في الثلاثين، وأنجلز في الثامنة والعشرين من العمر.
أشير بداية أن منهج ماركس يحمل في طياته حكمة لا تبلى أبداً، وإن لفّها النسيان في لحظة تاريخية ما، فإنها سرعان ما تعود الى الحياة عبر استحضار مفاهيمها أو بعض أفكارها للتأسيس عليها وإغنائها لفهم العالم المعيش. إن ماركس حكيم، حاله حال حكماء أهل الصين وحكماء العرب، حاضر بوصفه منتج أفكار، منتج مفاهيم تندرج حكمتها في صلاحها كأساس لقيام مجتمع العدالة الإنسانية. ماركس حكيم الحرية والعدالة الاجتماعية سعى الى تحرير الإنسان من سلطة المال ويرى في رأس المال معضلة حقيقية تقود في النهاية إلى تجريد الإنسان من إنسانيته واغترابه عن ماهيته.
يؤكد أحد الباحثين المعاصرين: في حقل المال لم يعد بالإمكان تحديد صفات الإنسان كما هو في الواقع، بل في علاقته بالمال الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، وبالتالي المال هو التشوه الكلي للإنسان الواقعي، في المال يغترب الإنسان عن ماهيته. وفي استمرار دفاع ماركس عن ماهية الإنسان، يرى أن ماهية الإنسان هي الحرية، الحرية من كل ما يستعبد الإنسان، اللاهوت، الدولة، المال، وبالتالي فإن الفلسفة المدافعة عن الإنسان هي فلسفة الحرية، وما الحرية سوى أن يتحول الإنسان إلى سيد هذا العالم، إلى تطابق الإنسان مع ماهيته، وهذا التطابق مع الماهية يعني تحرر الإنسان من الأصنام، كل الأصنام التي تستبد به. لا شك أن ماركس من حيث هو فيلسوف الحرية هو الذي يجعل من ماركس دائم الحضور.
تعدد المناهج التي تدرس الفلسفة الماركسية في اعتقاد- لا يضعفها بل هي إحدى نقاط قوتها. نعم، عاد ماركس الإنسان الفيلسوف إلى الحياة. ماركس فيلسوف ديالكتيكي كان مهموماً بمصير سعيد للعالم، وهو جزء لا يتجزأ من مفكري تاريخ الحداثة الأوروبية. السؤال عن تجدّد ماركس سؤال ينتمي إلى تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر. أي أن ماركس الذي عاد حياً بعد تجدّده هو ماركس المتنوع والمتعدد، ماركس فيلسوف الحرية، أجل ماركس فيلسوف الحرية. كما أكد أيضاً أحد الباحثين المعاصرين بقوله: ماركس الفيلسوف يدافع عن مركزية الإنسان، بل هو المدافع القوي عن الإنسان المتمرد. ماركس فيلسوف التمرد والثورة، يستعير أسطورة بروميثيوس الذي حمى الإنسان عندما أراد زيوس إفناءه بالطوفان، هو الذي سرق قبساً من نور الشمس وخبأه في قصبة وأعطاه للإنسان، بروميثيوس هو الذي خدع زيوس ولهذا غضب زيوس على بروميثيوس. وفيلسوف الحرية كارل ماركس هو الذي أخذ قبساً من نور الشمس من أجل الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“الاتحاد” الحيفاوية – 16 كانون االأول 2022