في الخامس من آذار عام 1871 ولدت روزا لوكسمبورغ في مدينة زاموشج Zamosc البولندية بإعتبارها الطفلة الأخيرة لعائلة تتألف من ستة أطفال ( ثلاثة أولاد وثلاث بنات). وفي الساعة التاسعة من مساء يوم 15/01/1919 قامت مجموعة من الجنود الألمان بمداهمة المنزل الذي كانت تقيم فيه واعتقلتها سوية مع كارل ليبنخت Karl Liebknecht، وبعد عدة ساعات من لحظة الإعتقال هذه تم اغتيالها غيلة حيث وجدت جثتها مرمية على مقربة من جسر على قناة مياه المدينة. وبين لحطة الولادة ولحظة الموت فاصل زمني قصير بلغة الزمن، ولكنه برغم ذلك كان فاصلا حافلاُ بالعطاء الكبير الذي قدمته هذه المناضلة الجسورة، أو كما سماها لينين بحق “ نسر الثورة “.
تعد روزا لوكسمبورغ بلا شك واحدة من أبرز المناضلات الثوريات في الحركة العمالية العالمية عند تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. ولقد كانت روزا ذات ذهنية متقدة، أصيلة وعميقة، غير أن مكانتها في الفكر الاشتراكي ظلت، لأسباب مختلفة، موضع خلاف وسجالات ساخنة.
وكمناضلة في صفوف الحركة العمالية العالمية والألمانية قامت روزا لوكسمبورغ بنقد حاد للإصلاحية reformism ونظريتها الصاعدة آنذاك “التحريفية”. كما كافحت بعد ذلك “الاتجاه الوسطي “في الإشتراكية الديمقراطية، الذي كان كارل كاوتسكي منظره الأهم في تلك الفترة.
إن تصنيف ما أنتجته روزا لوكسمبورغ والذي يبلغ حوالي (7000) عمل بين كتاب ودراسة ومقالة وبحث، بحسب معيار الأهمية، مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع وجهات نظرها، يشكل، ولاشك، مهمة صعبة. وبرغم ذلك فإن التأمل بكتاباتها يتيح الاستنتاج بأن اهتماماتها كانت تتركز في أربع مجموعات كبرى من القضايا هي:
- الإشكالية الإقتصادية الحاضرة تقريباً في كل مقالاتها ودراساتها، والتي تمثل، كما يبدو، الدافع أو المحفز الرئيسي للنشر ( وربما يرتبط الأمر بدراستها أصلاً، فهي حاملة شهادة دكتوراه في الإقتصاد)
- القضية الوطنية،
- مشكلة ما يسمى بـ التحريفية Revisionismوالإصلاحية Reformism
- قضية ستراتيج وتكتيك الحركة العمالية.
واضافة الى ذلك، تنتمي روزا لوكسمبورغ الى قائمة مؤسسي الفكر الإقتصادي العالمي بإعتبارها مؤلفة كتاب “تراكم رأس المال” ، الذي عرضت فيه نظريتها بصدد تطور وانهيار الإقتصاد الرأسمالي. وكما هو معروف فقد أثارت أعمالها، وفي مقدمتها مؤلفها المشار اليه اعلاه، ومنذ لحظة صدوره، زوبعة من المساجلات والنقد.
ومن المفيد الاشارة الى أنه بالرغم من العديد من التعميمات المثيرة للجدل التي صاغتها روزا لوكسمبورغ، في عملها النظري الأهم “تراكم رأس المال”، إلا أن هذا العمل، وخصوصا القسم التاريخي منه، يرسم لوحة دقيقة وواضحة لتطور النظام الرأسمالي في البلدان الأوربية المتقدمة، ويعد بدون مبالغة من أروع ما كتب في التاريخ الإقتصادي المعاصر. وفي دراسة هامة للأستاذ إبراهيم كبة أعتبر الجزء التاريخي من هذا العمل إضافة قيّمة للأجزاء التاريخية من عمل ماركس الأهم ( الرأسمال).
ويمكن القول إن البناء النظري الذي صاغته روزا لوكسمبورغ، في عملها الإقتصادي الأهم “التراكم”، كان يحمل بذاته الطريق لتعميق نظرية الإمبريالية، بغض النظر عما تضمنه العمل للعديد من الإشكاليات المثيرة للنقد والجدل والاختلاف. وفضيلة هذا العمل تكمن في أنه أثار زوبعة من النقاشات والأسئلة لم يهدأ أوارها لحد اللحظة. وأطروحاتها ومقارباتها النظرية العديدة، التي صاغتها في العديد من أعمالها، لم تعد ملكا لتاريخ سابق، بل إنها تتمتع بملموسية وراهنية بسبب ما يطرحه تطور الرأسمالية، كتشكيلة عالمية البعد، من مظاهر وتجليات جديدة، وفي مقدمها ظاهرة العولمة وتجلياتها الرأسمالية الملموسة، والذي هو بحاجة الى مقاربات جديدة تستند الى أرضية نظرية صلدة. وعمل روزا لوكسمبورغ يمكن، بدون أدنى شك، أن يوفر أساسا لذلك، إذا تمت قراءته قراءة علمية بعيدا عن أي شحنة إيديولوجية مسبقة (بالمعنى السلبي للإيديولوجيا).
لقد كانت المحظورات التي أحاطت بالفكر النظري لروزا لوكسمبورغ في معظمها عقائدية أكثر مما هي نظرية. والأن، وبعد هذه الفسحة الزمنية الطويلة التي انقضت منذ صدور أعمال “نسر الثورة” هناك حاجة ملحة لأن ينفتح الأفق لقراءة هادئة لنصوصها، والتي ظل الصخب يدور حولها لوقت طويل. إن أعمال روزا لوكسمبورغ كانت نتاجاً لأسئلة تحتّمت الإجابة عليها، ولهذا يتعين على الماركسيين قراءتها اليوم من دون التعكز على أحكام سابقة كانت نتاج ظروفها التاريخية الملموسة، ونتاج الصراعات الكبرى حول أفق الثورة والاشتراكية، في ذلك الزمان الملئ بالعواصف السياسية وتقلبات السياسة وألوان طيفها المتبدلة كل يوم، قراءة تتيح إعادة الإعتبار لروزا لوكسمبرغ ووضعها في مكانها الطبيعي في التاريخ، كمفكرة ماركسية كبيرة وكمناضلة ثورية باسلة إستشهدت من أجل مبادئها التي لم تتخل عنها لحظة واحدة.