الخِلد حيوان لطيف ينقب بدأب الأنفاق في الأرض ثم يكسر القشرة، على نحو هو الأقل توقعا، ويخرج فوق الأرض.
إن نشاطه الباطني، والأهم انتفاضاته الفجائية، جعلت من البهيمة الصغيرة الوقحة رمزا للثورة في القرن التاسع عشر. استشهد ماركس في «١٨ برومير» بعبارة من «هاملت» لتحية جهود الحيوان «أحسنت حفرا وتنزيلا، أيها الخلد الحبيب!». كتاب أمير صادِر «الخلد الجديد» مكرس لظهور جِراء الخلد في أميركا اللاتينية في السنوات القليلة الماضية. ذلك أنه في مطلع القرن الواحد والعشرين، تقدم القارة مقارنة فاقعة مع معظم أنحاء المعمورة: حكومات ميّالة لليسار، غالبا ما تدعمها حركات شعبية راديكالية، موجودة في السلطة على القسم الأكبر من مساحتها، من الأرجنتين إلى السلفادور، ثم تنعطف لتشمل أكبر قوة في المنطقة، البرازيل، وأكبر منتج للنفط فيها، فنزويلا.
صادِر، المولود في ساو باولو العام ١٩٤٣، مؤلف دزينة كتب وأبحاث عن السياسة في البرازيل وأميركا اللاتينية، كما عن مصائر اليسار واستراتيجياته — من «الدولة والسياسة عند ماركس» (١٩٨٣) ودراسات عن الثورات في كوبا وتشيلي ونيكاراغوا إلى «بطاقات بريدية إلى تشي غيفارا» (١٩٩٧) و«القرن العشرين» (٢٠٠٠) وهي سيرة غير رسمية للقرن العشرين. وصادر الآن رئيس «المجلس الأميركي اللاتيني للعلوم الاجتماعية» ولا يقتصر أمره على أن يكون عالما اجتماعيا نافذا، بل هو مناضل غير تائب أيضا، من فئة الذين لم يستبدلوا خمرهم الأحمر بالماء المعدنية أو الكوكا كولا. وكما يروي في مقدمة سيرته الذاتية، بدأ صادر كمناضل العام ١٩٥٩ عندما دعي هو وأخوه آدير للانضمام إلى مجموعة «لوكسمبورغية» صغيرة. كانت مهمته الأولى توزيع جريدة اشتراكية، كانت صفحتها الأولى تحيي انتصار الثورة الكوبية على ديكتاتورية فولجنسيو باتيستا.
وكما هو حال مجايليه، تأثر صادِر تأثرا عميقا بالظهور المفاجئ لـ«الخلد» في تلك الجزيرة الكاريبية، وهو حدث ترك آثاره على القارة كلها. في حديثه عن تلك السنوات، يلاحظ أنه بدا كأن تلاقيا هيغليا قد حصل بين النظرية والواقع، بين الماركسية والثورة. يصف قول تشي المأثور «إما ثورة اشتراكية وإما مسخ ثورة»، بأنه «الشعار الذي أعطى لحيواتنا معنى». بدا في مطلع الستينيات أن تلك الاندفاعة إلى الأمام لا تقاوم، ثم توالت سلسلة الانتكاسات والهزائم، من الانقلاب العسكري في البرازيل إلى عودة الرأسمالية على امتداد الكتلة السوفييتية بعد العام ١٩٩١. على أن تلك الارتدادات لم تكن عند صادِر سببًا للاستسلام: كانت الرأسمالية في شكلها الحاضر أشد ظلما من أي وقت مضى ومسؤولة عن حالات الحروب والمجاعة والحرمان العميمة وتدمير البيئة؛ وما دامت الرأسمالية باقية، تبقى الاشتراكية في الأفق التاريخي بديلاً ممكنًا.
لذا كان كتاب «الخِلد الجديد» مبنيا بما هو تحقيق في الأشكال الحاضرة من النضال المناهض للرأسمالية في أميركا اللاتينية وفي احتمالاته القادمة. يبدأ أمير صادر تحليله بتقسيم تاريخ القارة منذ الثورة الكوبية إلى ست دورات من النضال السياسي. جاءت الأولى بين ١٩٥٩ و١٩٦٧، وهي فترة ظهور الحركات المسلحة الريفية في عدد من البلدان تحت تأثير الثورة الكوبية. أعلن موت تشي غيفارا نهاية الموجة الأولى. في الدورة الثانية، من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣، حلّت الحركات المسلحة المدينية محل الريفية، فيما كان سلفادور ألليندي يحاول تجربة فريدة في تشيلي. في الفترة الثالثة بين ١٩٧٣ و١٩٧٩، بدا اليسار مهزوما فيما الديكتاتوريات العسكرية تتسلم الحكم في تشيلي والأرجنتين وأوروغواي، وتنضم إلى لائحة طويلة من البلدان — بوليفيا، البرازيل، الإكوادور، هندوراس، نيكاراغوا، باناما، باراغواي، بيرو — التي سبقتها تحت الحكم العسكري. بدأت مرحلة رابعة العام ١٩٧٩ عندما تسلمت «جبهة ساندينيستا للتحرر الوطني» الحكم في نيكاراغوا واستمرت حتى ١٩٩٠؛ في تلك السنوات شكلت الحركات المسلحة تحديا قويا للحكومات، في بلدان أخرى من أميركا الوسطى، وفي السلفادور خصوصا. تجري المرحلة الخامسة من ١٩٩٠ إلى ١٩٩٨، تفتتحها الهزيمة الانتخابية للساندينيين وسقوط الاتحاد السوفييتي، الذي خسرت كوبا بعده الدعم السوفييتي وبدأت تعاني مصاعب «الفترة الخاصة». والأهم من هذا كله هو انتصار النيوليبرالية على امتداد القارة خلال تلك الدورة، وقد كسبت تأييد الأحزاب القومية والاشتراكية الديموقراطية السابقة، واحتلت الأطياف السياسية كلها.
لكن في الحقبة الأقرب إلينا، جابهت الهيمنة النيوليبرالية انتكاسات متتالية. انتخاب هوغو تشافيز في فنزويلا العام ١٩٩٨ أعقبته انتفاضات، عند منعطف القرن، ضد الحكومات في بلدان عدة: أجبر رؤساء على الهرب من قصورهم في الأرجنتين العام ٢٠٠١، وفي بوليفيا العام ٢٠٠٣ و٢٠٠٥ والإكوادور في ٢٠٠٥ وأحرزت القوى التقدمية انتصارات انتخابية بمستويات مختلفة: «لولا» في البرازيل العام ٢٠٠٢، تاباريه فاسكيس في أوروغواي العام ٢٠٠٤، إيفو موراليس في بوليفيا العام ٢٠٠٥، رافائيل كورّيا في الإكوادور العام ٢٠٠٦، فرناندو لوغو في باراغواي العام ٢٠٠٨. وتكرس معنى «الانعطافة اليسارية» في أميركا اللاتينية بتعزيز العديد من تلك القوى: تجاوز تشافيز محاولة انقلابية ضده واستفتاء لنزع الشرعية عنه وفاز بدورة رئاسية جديدة العام ٢٠٠٦؛ في العام ذاته، أعيد انتخاب «لولا»؛ وبقي موراليس وكوريا في الحكم العام ٢٠٠٩؛ وخلَف خوسي موخيكا في مونتيفيديو تاباريه فاسكيس؛ وفازت ديلما روسّيف، المرشحة المدعومة من «لولا»، في الانتخابات البرازيلية العام ٢٠١٠.
ما الذي يفسّر انهيار النيوليبرالية في القارة التي كانت «مختبرها» ذات مرة؟ يشير صادر إلى حالات الفشل الاقتصادية لسياسات «توافق واشنطن» التي سيطرت على التضخم النقدي، إلا أنها أنتجت مديونيات حكومية متنامية ما جعل البلدان المعنية بالغة الهشاشة في وجه هجمات المضاربة الريعية. ففي غضون عقد من الزمن، كان النموذج النيوليبرالي قد تسبب بأزمات كارثية في أكبر ثلاثة اقتصاديات في المنطقة: المكسيك العام ١٩٩٤، البرازيل العام ١٩٩٩، والأرجنتين العام ٢٠٠١. ولكان لسياسة «الانفتاح» التي اعتمدتها اقتصاديات أميركا اللاتينية أيضا نتائج اجتماعية بعيدة المدى، فقد أدى تقليص التصنيع وتوسّع القطاع المالي إلى ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم تمركز الدخل بين الأغنياء من جديد. وقد ترافقت تلك المسارات مع تذرير القوة العاملة وارتفاع نسبة العمل غير الرسمي في أوساطها، وإفقار فئات الدخل المنخفض والمتوسط. ورأى صادر أن النيوليبرالية كانت ناجحة على الصعيد الأيديولوجي، فيما فشلت في تأسيس قواعد اجتماعية ضرورية لإكسابها الشرعية والاستمرارية، ففي غضون سنوات قليلة كانت قد «استنفدت طاقة الهيمنة لديها من دون أن تنجز أيا من وعودها»، فأدّت الأزمات الاقتصادية والمظالم الاجتماعية إلى سقوط عشر حكومات على الأقل — هذه المرة ليس نتيجة انقلابات عسكرية وإنما نتيجة فقدان الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عالم اجتماع وفيلسوف ماركسي فرنسي- برازيلي
مجلة “بدايات” – العدد 34 – 2022