يسجل هذا النص عددا من الأطروحات عن مفاهيم تنتمي إلى ما سمّي «علم الثورة» أو «فن الثورة» في فكر لينين. من البديهي أن تجهد الثورات، والحركات الثورية، لتتعلّم من تجاربها المتبادلة، فكيف إذا كانت الثورة المعنيّة هي أكبر ثورة في القرن العشرين، كما تأمّل فيها وكتب عنها أبرز قادتها. هذه الأطروحات أقرب إلى ملاحظات قراءة. ليست تدعي الإحاطة بكامل الكتابات والممارسات المتعلقة بلينين والثورة الروسية، وإن تكن تلامس أبرز عناوينها. وليست تسعى إلى التعميم عن الثورات انطلاقا من التجربة الروسية. إنها تطمح فقط إلى تقديم فكر وتجربة ينطويان على الوحي والتحدي للذين يعملون في الفكر والممارسة من أجل التغيير الجذري للسلطة والمجتمع.

  1. «البلورة المستقلة» للنظرية الماركسية

ينطلق لينين من فرضية تقول «لا ثورة دون نظرية ثورية» لإنتاج معارف عن الواقع الروسي من أجل تغييره. وعلى مدى النجاح في عملية المعرفة تلك يتوقف النجاح في فعل التغيير. والنظرية المعنية هي الماركسية. لكن الماركسية ليست نظرية كاملة جاهزة. إنها تحتاج إلى تطوير باتجاهين: الانتقال، في الفكر، من المجرد إلى العيني أو المحدد؛ وتطبيق المبادئ العامة بناءً على خصوصيات كل بلد، أي درجة تطوره ونمط اقتصاده وطبيعة التركيبة الطبقية فيه، وطبيعة العلاقات المتبادلة بين قواه السياسية، إلخ. وهذا ما يسميه لينين «البلورة المستقلة» للنظرية:

«لسنا نعتبر أنّ نظرية ماركس كاملة وغير قابلة للمس. بل إننا، بالعكس تمامًا، مقتنعون بأنها اكتفت بإرساء حجر الزاوية لعلم ينبغي على الاشتراكيين تطويره بكافة الاتجاهات إذا هم أرادوا أن يماشوا الحياة. ونعتقد أن البلورة المستقلة لنظرية ماركس أمر جوهري بالنسبة للاشتراكيين الروس بنوع خاص، لأن هذه النظرية تقدّم المبادئ العامة المرشدة فقط، التي تختلف في التطبيق العملي المخصوص في بريطانيا عنها في فرنسا، وفي فرنسا عنها في ألمانيا كما تختلف في ألمانيا عنها في روسيا».

(المؤلفات الكاملة، المجلد ٤، ص٢١١–٢١٢)

يأخذ لينين على جورجي بليخانوف ومفكري الرعيل الأول من الماركسيين أنهم يعتمدون على المفاهيم الماركسية العامة. يقول عن بليخانوف، بطريرك الماركسية الروسية، إنه يبحث «عن أجوبة عن الأسئلة المحددة في التجلّي المنطقي المبسط للحقيقة العامة»، في حين أن المطلوب في حال روسيا، صياغة الأجوبة المحددة عن السؤالين المحددين، بل على التحديين المحددين، اللذين تقذف بهما الشعبوية (النارودنية): هل تنطبق الماركسية على الأوضاع الروسية؟ وبما أن تكوّن سوق داخلية هو المقياس الحاسم لسيادة الرأسمالية، هل تكونت مثل هذه السوق في روسيا؟

والشعبوية أبرز الحركات المعارضة للقيصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر. تتشبث بالخصوصية الروسية، وبـ«المير»، المشاعة الزراعية القروية البدائية التي تدير الأرض المزروعة والمشاعات وقد منحت حق انتخاب موظفيها وتحولت إلى وحدة إدارية لا مركزية بعد تحرير القنانة العام ١٨٦١. تدعو الشعبوية إلى الاعتماد على «المير» للانتقال إلى لون من الاشتراكية الفلاحية من دون المرور بالمرحلة الرأسمالية الصناعية. رفعت الحركة شعار «الذهاب إلى الشعب» ذهب بموجبه ألوف الشباب من أبناء الطبقات الوسطى للعمل في الأرياف وتحريض الفلاحين ضد الاستبداد القيصري. بعد سنوات عديدة، باءت حملات التعبئة بالفشل، ونشأت جمعية سرية باسم «نارودني فوليا» (إرادة الشعب) مارست العمل المسلح لإسقاط النظام، وقد تمكنت من اغتيال القيصر إسكندر الثاني العام ١٨٨١ ما أطلق حملة اعتقالات وإعدامات واسعة. نظّمت محاولة اغتيال فاشلة للقيصر إسكندر الثالث العام ١٨٨٦ استدعت حملة اعتقالات وقمع وإعدامات قضت عمليا على هذا التنظيم المسلح (اعتقل شقيق لينين الأكبر، ألكسندر، لعلاقته بتلك المحاولة وأعدم شنقا وله من العمر ٢١ عاما). مع تراجع العمل المسلح، استمرت مجموعات شعبوية بالعمل بين الفلاحين، في ظروف من التردي الكبير في معيشة سكان الأرياف عموما، ولقيت نجاحا نوعيا إذ نشأ منها «حزب الاشتراكيين الثوريين»، واسع التمثيل للفلاحين، الذي سيلعب دورا رئيسا في العمل الثوري منذ العام ١٩٠٥.

خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، كرّس لينين جهده للإجابة عن هذين السؤالين في عدد من الدراسات ومراجعات الكتب والأبحاث الاقتصادية والمقالات توّجها بحثه «تطور الرأسمالية في روسيا» (١٨٩٨)، الذي لا يحظى بكبير اهتمام بين أعماله مع الأسف. حسم الكتاب القطيعة مع العقيدة الشعبوية، إذ أبان مميزات تطور اقتصاد رأسمالي سوقي في روسيا ومن أبرز نتائجه الاجتماعية: توسع الإنتاج الزراعي الموجّه للسوق، التمايز الاجتماعي المتزايد بين الفلاحين، نمو الملكيات الزراعية الكبيرة، المكننة المتنامية للعمل الزراعي، نمو العمل المأجور في الزراعة، ونشوء الإنتاج الرأسمالي المنزلي والقروي (المانيفاتورة)، وتكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة التي نمت بسرعة وتمركزت في المدن الرئيسة، إلخ. بعبارة أخرى، خلص البحث إلى الانهيار المتسارع للقاعدة المادية لمشاعات «المير» ولاستقلاليتها لوحدات إنتاج زراعي.

  1. عدم التطابق بين البنية الاقتصادية والبنية السياسية

دار الصراع الفكري بين البلاشفة من جهة والمناشفة والاشتراكيين الثوريين، من جهة أخرى، حول موضوع نظري بامتياز يمس الواقع الروسي وما ينجم عنه من تشخيص لطبيعة الثورة وقواها ودور الطبقة العاملة فيها خصوصًا. مثّل المنشفيون والاشتراكيون الثوريون النزعة الاقتصادوية التي لا تختلف في تعيين الاقتصاد الروسي على أنه رأسمالي، لكنها تخلص إلى أن الطبقة المسيطرة اقتصاديا هي بالضرورة الطبقة المسيطرة سياسيا. هكذا، لن تكون الثورة ثورة برجوازية إذا قامت بها البروليتاريا. أما إذا كانت الثورة ثورة البرجوازية فيتعين أن تقوم بها البرجوازية بذاتها ولا مكان فيها للبروليتاريا إلا كطرف ثانوي أو تابع.

ما لا يفقهه الاقتصادويون، حسب لينين، هو التفاوت بين القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقية السياسية (والأيديولوجية) للمجتمع الروسي، فهم يتجاهلون حقيقة أن البناء الفوقي ليس مجرد «انعكاس» للبناء الفوقي - التحتي إلى ذلك، يأخذ عليهم الاختزالية في تشخيص التركيب الطبقي للمجتمع الروسي، كما سنرى أدناه. وهو تجاهل يلقي بثقله على تشخيص طبيعة الثورة وقواها وأهدافها وطرائق الانتقال إلى الاشتراكية.

  1. بعض الخصائص العامة للثورات

في كتاباته عن الثورة الروسية، يورد لينين تعريفات ومميزات عدة للثورات بوجه عام، أهمها:

أولاً، طابعها المفاجئ بحيث تكاد تكون عجائبية: «لا يوجد معجزات في الطبيعة أو التاريخ، ولكن كل منعطف فجائي في التاريخ، وهذا ينطبق على كل ثورة، يتكشف عن ثروة من المضامين، وعن تركيبات متعددة من أشكال النزاع، وعن اصطفافات قوى بين المتنازعين، مفاجئة ومميّزة، إلى درجة أنه يتبدى للعقل العادي أن في الثورات الكثير من قبيل المعجزات» (أطروحات نيسان، ص ٢٩٧).

ثانيا، الثورات كاشفة لآليات تشغيل المجتمع والدولة، وتكشف بسرعة فائقة للقادة والجماهير حقائق ووقائع وإمكانات لم تكن معروفة أو واضحة من قبل.

ثالثا، الثورات توسّع إطار الممكن: «في الأزمنة الثورية تتسع حدود ما هو ممكن بنسبة ألف ضعف» (أطروحات نيسان، ص ٣٢٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة “بدايات” – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: